شعار قسم مدونات

فيلم البريئات.. هكذا كشف مأساة الراهبات

فيلم البريئات

الحرب كالعاصفة لا تستطيع أن تتبين حجم الكارثة الذي خلفتها حتى تهدأ، لا تفرق بين صغير أو كبير، بين رجل أو امرأة، بل ولا حتى بين مؤمن أو ملحد، تعصف بكل ما تجده أمامها، غير مبالية في ذلك لا بقيم، ولا مبادئ، ما يهم آنذاك هو تحقيق النصر، لا يهم على حساب من يكون، قديما عندما كان تشتعل حروبا، ربما كانت تمر سنين حتى تصل إلى الناس، عبر كتب المؤرخين، كما أن تلك الكتب كانت تروي وجها واحدا فقط، أي الوجه الذي يرتضيه المنتصرون، أما اليوم فنحن صرنا نرى شرارتها، من قبل حتى أن تشتعل، لكن هل حقا نحن ندرك مأساتها فعلا، أم ترانا نحفظ أعداد ضحاياها فقط.

الحربان العالميتان اللتان شهدتهما أوروبا، كانا غير عاديتين على مر التاريخ، ما خلفتاه من مآس لا يتصور، ليس دمار البيوت ولا عدد الضحايا، بل ما تركته من ضمار نفسي واجتماعي، تركت شعبا ممزقا غير قابل للالتئام، الكثير من المفكرين والفلاسفة حاولوا أن يبينوا حجم هذه المأساة، كما أن غيرهم سعى إلى إيجاد حلول لها، لكن هل استطاعوا فعلا ذلك؟ …لا نستطيع أن نجيب عن ذلك.

هناك الكثير من الأفلام التي ظهرت سواء بعد الحرب مباشرة، أو بعدها بسنون، حاولت تسليط الضوء على البؤرة المتورمة من آثار الحروب، لكن لحاجة في نفس يعقوب كان معظمها ربما يسلط الضوء على قضية الهولوكوست، كما أن بعض الموضوعات كانت تعد من التابوهات، التي يمنع الحديث عنها، باعتبار أنها كانت تمس بكرامة مجتمع ما، لكن مؤخرا بدأت تظهر بعض الأفلام التي تتناول ما كان يوما ما من قبيل المحظور الحديث عنه، كما حدث في فيلم نساء بيرلين، وكذلك فيلم البريئات.

عندما انغمست الراهبات في الكنيسة، وسيطرت على عقولهن بعض الأفكار التي كانت الكنيسة ربما منها براء، لم يستطعن أن يواجهن مشكلات الحياة، وذلك أنهن بدأن يتعاملن معها بمنطق الدين

في سنة 1945م كانت للتو قد حطت الحرب أوزارها، لتبدأ المأساة الحقيقية، داخر دير منعزل هناك، وسط غابة مغطاة بالثلوج، كانت توجد الكثير من النسوة، الذين وهبن أنفسهن "للسماء"، كل ما كن يطمحن فيه أن يصبحن عرائس في السماء، غير أن الحرب ستغير مجرى حياتهن للأبد، قبل أن تهدأ الحرب بقليل اجتاح الدير جنود ألمان وبعدهم سوفييت، حينها لم يكن يفرقن بين عرائس الأرض أو السماء كل ما كان يهمهم هو إطفاء ظمأ شبقهم.

يرصد الفيلم حياة المأساة التي عاشتها الراهبات بعد ما حلت بهن هذه الكارثة، حيث كان معظمهن قد حملن، غير أنهن سيجدن أنفسهن داخل دوامة من الحيرة، كن يعشن داخل الكثير من التناقضات، كيف يتعاملن مع واقعهن الجديد، حياة الرهبنة، لها قوانينها وشروطها، إنها الحياة الأمثل التي ترمز للطهر، لكنهن وجدن أنفسهن بإيزاء متناقضات أكبر، بحيث كان يجب عليهن التسليم بالقضاء والقدر، كما يتصورنه، والذي يعني الخضوع التام، مهما كانت النتيجة، ولو أودى ذلك بحياة إحداهن.

بينما كانت الراهبات يرتلن صلاة الفجر، كانت إحداهن تعاني ألم المخاض، ظلت على حالها يومان، دون أن يستطعن أن يفعلن لها أي شيء، غير الدعاء، الراهبات محرم على أي أحد أن يرى أجسادهن أو يلمسها مهما كان، غير أن إحداهن لم تستطع تحمل ذلك، فقررت زيارة معسكر فرنسي، الذي كان قريبا من هناك، يضمد جراح المعطوبين بعد الحرب، ستقنع ممرضة فرنسية شابة بأن تأتي معها، بعدما أجرت عملية قيصرية نجت بسببها الراهبة التي كانت تعاني من ألم المخاض من موت محقق، ستكتشف بعد ذلك الطبيبة، أن الكنيسة كانت تخفي سرا خطيرا، هو وجود العديد من النساء حوامل.

نعم والإشكال أنهن كلهن يرفضن الكشف عنهن، لأن في اعتقادهن أن ذلك يخالف المبادئ التي تربين عليها، ستمر أيام بعدها يستسلمن، بعدما نالت الطبيبة الجديدة إعجابهن، عندما خلصتهن من يد أحد الجنود، هذه واحدة من اللحظات الحاسمة في حبكة الفيلم، وفي اعتقادي أن المخرجة لم تعمد إلى تصوير هذا الفيلم إلا لهذه الغاية، نعم الفيلم على عكس سائر الأفلام التي تتناول قضايا الدين، حيث يكون معظمه هو إظهار الدين في صورة سيئة، لكن هذه حاولت فقط أن تبرز بعض جوانب الخاطئة التي يسقط فيها المتدينون.

كانت رئيسة الدير تقنع الأمهات اللاتي يلدن، بأنها تذهب بأبنائهن إلى عائلات تربيهم، لكنها كانت فقط خدعة تتحايل بها عليهن، حيث كانت تذهب بالأبناء وتلقيهن وسط الغابة، حتى لا يلحق العار بالطاهرات اللاتي وهبن أنفسهن للمسيح كما يقلن، لكنها لم تكن تدرك أنها بتفكيرها ذا كانت تقع في أخطاء أشنع، حيث كانت تقتل أطفال أبرياء، كما أنها كانت تحرق قلوب أمهاتهم عليهم، حتى أن هذا الأمر سيؤدي بإحداهن للانتحار.

في الفيلم ثنائيات كثيرة، لكن في اعتقادي أن الثنائية التي كانت مستهدفة هي ثنائيات الديني والدنيوي، نعم عندما انغمست الراهبات في الكنيسة، وسيطرت على عقولهن بعض الأفكار التي كانت الكنيسة ربما منها براء، لم يستطعن أن يواجهن مشكلات الحياة، وذلك أنهن بدأن يتعاملن معها بمنطق الدين، أو بمنطق إقحام الدين في كل شيء، فأدى ذلك إلى كوارث أفظع. الفيلم مستند إلى قصة حقيقية، ولم تواجه المخرجة أي مشاكل مع الكنيسة، بل لاقى الفيلم استحسانا من قبل البابا شخصيا، تناول حياة الراهبات بدقة، وحاول تسليط الضوء على مجتمعهن السري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.