شعار قسم مدونات

زِرُّ القَميصِ الأوسط..

BLOGS زر القميص الأوسط

علَّمني ديني أنْ أكونَ أنيقًا، على أيِّ حالٍ كنتُ؛ غنيًّا أو فقيرًا، دائنًا أو مَدينًا، قاصدًا أو مقصودًا، المهمُّ أنْ أكونَ أنيقًا بما أملِك، بقناعاتي وأفكاري، بإيماني ومعتقداتي، بخلوتي وبمعاملاتي، وكذلك بهيأتي وملابسي، قال الله جلَّ وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ولكنَّه علَّمني كذلك أنَّ الستر لا يكتملُ إلا بلباس التقوى إذْ قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ}، لطالما أعجبني ربطُ اللباس بالتقوى وجمعهما في صورة بلاغية مذهلة، ولكنْ أنْ تعيشَ المعنى واقعًا أمرٌ مختلف!

 

الإثنين الماضي التقيت بأحد زملاء الجامعة السابقين بعد طول غياب، فسلَّمتُ عليه ومشينا سويًّا، فلفتَ انتباهي أنَّ زرَّ قميصه الأوسط غير معقود فأخبرته لكي يعدله، فقال لي بأنه مقطوع! ثم قال لي-مازحًا-: "بما إني توظفت مش سائل"، ثم أكملنا الطريق وانشغلنا بغير ذلك! الثلاثاء يوم البارحة كنتُ على موعدٍ مع زميلٍ آخر لي انضممتُ لحلقته لأجل تثبيت حفظ القرآن كاملًا، واتفقنا على أنْ أسمِّعَ جُزْأَ عمَّ كاملًا، ذهبتُ صباحًا قبلَ موعد محاضرتي الأولى وقمتُ بالمراجعة مستغلًّا حالةَ الهدوء في ذلك الوقت الباكر، عطشتُ فابتعتُ عصيرَ ليمونٍ ورجعتُ لمكاني، وخلال قراءتي لفتني أنَّ زرَّ قميصي الأوسط مفقود فساءني ذلك، فقلتُ لنفسي أنهي الجزء وأرى ماذا سأصنع!

 

قررتُ بعد أنْ أنهيتُه أنْ أغادر الجامعةَ سريعًا إلى وسط المدينة في نابلس، لأقصدَ الخيَّاطَ الذي أودعتُ عندَه بِدلةَ المستشفى التي كنتْ أريد تضييقها بعض الشيء، فقلتُ لنفسي آتي بالبِدلة وأخيطُ زرَّ القميص، وهكذا أكون قد استعجلتُ أمرًا كنتُ أنوي تأجيله وأقدار الله شاءت ذلك، ولا بأس! وصلتُ وسطَ المدينة متجهًا على عجل أقصدُ محلَّ الخياط، علَّ ذلك القلق الذي أصابني ينزاحُ عني، فقد انتابني شعور سيء للفجوة التي أحدثها ذلك الزِرُّ، فوصلتُ وكلِّي أملٌ أنَّ هذا الشعور سيتلاشى وينقضي، ولكنْ كانَ العكس! ازداد شعوري سوءًا، فالمحلُّ مغلق، رغم أنَّ المحلاتِ المجاورة كلَّها مُشرعةٌ للزبائن إلا هو، فحرتُ كثيرًا، ومحاضرتي على وشك البدءِ وعليَّ أنْ أحضرَها، وقد قطعتُ مسافةً مكانيةً زمانية دون أنْ أحقق هدفي من النزول، فقصدتُ خيَّاطًا آخر عسى ذلك الهمُّ ينزاحُ عنِّي!

 

أنت لا تشعرُ فِعْلُ الزرِّ الأوسط، لا تدركُ مركزيَّتَه، ربطَه المحكم الذي يحفظُ عليك سترَك وحِلمَك ووداعتَك، وكذلك بسمتَك، صغيرٌ ربَّما في عينِك، عظيمٌ أيَّما في عِلمِ ربِّك!

سِحتُ في الشوارع المجاورة أبحث عن محلِّ خياطةٍ آخر، وخريطة محالِّ الخياطة ليست مطبوعةً في ذاكرتي، فأنا لا أقصدُ إلا محلَّ العمِّ أبي مهنَّد، ثمَّ تذكرتُ سريعًا محلَّ خياطةٍ بجانبِ محلٍّ للحلاقة كنتُ قدْ قصدتُه ذاتَ مرَّة، فارتسمتْ البسمةُ منْ جديدٍ على مُحيَّاي، وذهبتُ أحثُّ الخُطى حتى أنتهي من ذلك القلق، وهذه المرَّة كان المحلُّ مفتوحًا، فقلتُ: الحمدُ لله، وأخيرًا! فدخلتُ على الرجلِ وقلتُ له: صباحُ الخير يا عمِّ! هل لي أنْ أخيطَ زرَّ القميصَ هذا على عجل -يحوي القميص زرَّان إضافيان- فأخبرني أنَّه لا يملك إبرةً وخيطًا ويعتمدُ كاملًا على عَمِل الآلة، واعتذرَ منِّي!

 

عدتُ لمجمَّعِ سيارات الأجرة لأقصدَ الجامعة وألحقَ محاضرتي وأنا أجرُّ خلفي خيبةً تملَّكتني وانطبعتْ على مُحيَّايَ تحكي كيفَ قهقرني زِرُّ قميصٍ لا أدري كيفَ انقطعَ وكيفَ أصبحتُ فجأة دونه، ورحتُ أفكِّرُ كيفَ أفعل الآن، فليسَ الزِرَّ الأخيرَ أو قبل الأخير لأحشوَه في البنطال فلا يبدو، وليس الأولَ أو الثاني فأفكَّه فلا يُشكلُ عليَّ ذلك، إنَّه زِرُّ القميص الأوسط! والآن لا أستطيع أنْ أبقيَ قميصي مَحشوًّا فإمَّا أُخرجُه مع إبقائه مُغلقًا أو أفتحُه -على الموضة- وأنتهي من هذا الحرج!

 

وبعدَ أنْ وصلتُ الجامعةَ توجَّهتُ مباشرةً لدورة المياه لأرى ماذا سأصنع، كان عليَّ أنْ أتخِذَ قرارًا سريعًا فالمحاضرةُ بدأتْ ولا أريدُ أنْ أتأخَّر أكثر، وبعد مشاورةٍ سريعة للمرآة أمامي، اقترحتْ عليَّ أنْ أبقيَه خارج البنطال مع إغلاق أزراره فهذا ألبقُ بي ولي ويناسبُ ما ألبس، فتوكلتُ على الله وأخذتُ بمشورتها، وتوجهتُ لمحاضرتي متأخرًا بعشرة دقائق، لأجدَ الطلابَ جالسين ينتظرون المُحاضِرة، ولكنَّها لم تأتي فأجمعوا على الخروج، وهكذا ضاعتْ المحاضرة الوحيدة التي قدمتُ إلى الجامعة لأجلها خِصِّيصًا!

 

يومٌ كانَ شاقًّا فعلًا، على الرغمِ منْ أنَّني بدأتُه بخيرِ الكلام، ولكنَّ الزرَّ الأوسط فعلَ بي فعلتَه التي فعل، وذهبتُ لوسط البلد دون جدوى، ولم يكنْ هناك محاضرة، فيبدو أنني أتيتُ بلا جدوى اليوم، وبخسارة زرِّ القميصِ الذي عكَّرَ صفوَ ما أضفاه إليَّ جزءُ عمَّ من طمأنينة، ثم لمعَ أمامي كالبرق أنني اليوم رغمَ كلِّ ذلك سأبدأ برحلة التثبيت مع القرآن فلم اليأس والقنوط هكذا؟! لملمتُ شتاتي وسكنتُ قليلًا وتصالحتُ مع مظهري بزرٍّ أوسطَ مفقودٍ، وقلتُ لنفسي سأصلحه حالَ عودتي للبيت، ثم التقيتُ بصاحبي وجلسنا نتلوا جُزْءَ عمَّ بسعادةٍ غامرة!

 

فعلتَ الكثيرَ مما يبدو لكَ لممًا لا يعدو كونه إثمًا أو معصيةً ليسَ من الكبائر، كثيرٌ من تلك الأمورِ بحياتِنا تُشبِهُ زرَّ القميصِ الأوسط، قد تبدو صغيرةً، ولكنَّها رغم ذلك كلِّه تحدِثُ فجوةً بغيابِها
فعلتَ الكثيرَ مما يبدو لكَ لممًا لا يعدو كونه إثمًا أو معصيةً ليسَ من الكبائر، كثيرٌ من تلك الأمورِ بحياتِنا تُشبِهُ زرَّ القميصِ الأوسط، قد تبدو صغيرةً، ولكنَّها رغم ذلك كلِّه تحدِثُ فجوةً بغيابِها
 

طوال ذلك الوقتِ كانت الأفكار تتوالى تباعًا تتحدثُ بصوتٍ خافتٍ لَمْ أكنْ لأمِيزَه جيِّدًا لأنَّ صوتَي الغضبِ والحزن عَلَيَا وصارا مهيمنين، وحين اطمأننتُ بدأ ذلك العصفُ الذهنيُّ بمراجعة الموقف لعلِّي أنول الفائدة والعبرة ممَّا جرى، وبدا الأمرُ يتكشَّفّ ويتضحُ أكثر، وبدأتْ كلمة الوسطى ورديفاتُها تقرعُ بابي وكأنَّها تخبرني بما وراء الخبرِ بما خَفِيَ وغابَ عنِّي، المركزية والوسط ونقطة الأصل ومركز الجذب ومركز الثِّقَل، كلُّها مصطلحاتٌ اصطفَّتْ أمامي!

 

والآن أقدِّرُ أنَّك تتلو هذه الآية وتعيشُها معنى علَّكَ لم تعشْهُ قبلُ إنْ لمْ تعْبُرْ بمواقف كهذه، يقول الله جلَّ وعلا: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ"، وقد اختلف العلماء في تأويل معنى الصلاة الوسطى في الآية، ولكنْ أيًّا كان المعنى، فالمهمُّ أنَّها الوسطى، أنَّها المركز، كلُّها أوقاتُ صلاة وكلها تتشابه ولا ندري يقينًا أيُّها أفضلُ من الأخرى، ولكننا ندري يقينًا عظم وسطيتِها فخُصَّت بالذكر والحثِّ على الحفاظِ عليها توكيدًا واضحًا، هذا الربطُ القرآني لأراه من سحرِ البيانِ والبلاغة!

 

أضعتَ صلاةً وقضيتَها مُعلِّلًا أنكَ مرهقٌ مشغول متعب، تكاسلتِ في وضعِ حجابك مُعلِّلةً أنَّك تطبقين دينَك دون حجاب، بخستَ ظلمتَ اغتبتَ نممتَ شتمتَ وفعلتَ الكثيرَ مما يبدو لكَ لممًا لا يعدو كونه إثمًا أو معصيةً ليسَ من الكبائر، كثيرٌ من تلك الأمورِ في حياتِنا تُشبِهُ زرَّ القميصِ الأوسط، قد تبدو صغيرةً-على النسبية- تشبه غيرها من الأزرار وتختلف في الترتيب والموقع ليسَ إلا، ولكنَّها رغم ذلك كلِّه تحدِثُ فجوةً بغيابِها قد تودي بكَ لأنْ تسعى بلا هدف، تتساءَلُ عنْ حزنٍ لا تدري منشأه، تتخبَّطُ لا تدري ما بالُك، لماذا الضياع؟! لماذا الشكوى؟! لماذا وصلَ بي الحالُ إلى هنا بعد أنْ كنتُ بخير؟! لماذا اليوم أنا في ضلالة؟! نعم؛ أنت لا تشعرُ أنَّ ذلك فِعْلُ الزرِّ الأوسط، لا تدركُ مركزيَّتَه، ربطَه المحكم الذي يحفظُ عليك سترَك وحِلمَك ووداعتَك، وكذلك بسمتَك، صغيرٌ ربَّما في عينِك، عظيمٌ أيَّما في عِلمِ ربِّك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.