شعار قسم مدونات

العاشق الأندلسي والإمام البنا.. حكاية المعنى والتيه!

blogs الطاهر أحمد مكي

قبل أن ندخل الجامعة بأشهر، بدأت موجة نقد إرث التيار الإسلامي وتقييم تجربته ومشواره العلمي، وشاعت أفكار ضعف طريقة الإسلاميين العلمية، ومن هنا دبَّ الشك في صحة تراثهم الوعظي، وبدأ التيه الأعظم حينما بدأت الموجة بنقد التراث الفقهيِّ أولًا، ولشد ما كانت صدمة الشباب في معتقداتهم وشيوخهم، وسرت نار الشك تأكل القلوب والعقول والأخلاق، وتساقطت الرموز.. الواحد تلو الآخر.. هذا لداعي السقوط السياسي.. وذاك لداعي السقوط الفقهي.. وكثرت دواعي السقوط في مصر، وانكفأت أبحث في تاريخ الحركة الإسلامية في مصر وغيرها على امتداد التجربة في الوطن العربي والإسلامي، حتى أرى الصورة كاملة وأعي تاريخ السقوط والنهوض عن قرب، لتطمئن نفسي وأقف على تربة صلبة، تخفف من وطأة الشك الذي دبَّ في قلبي وروحي.. وأخذت أقرأ، وتبيَّنت أنَّ السقوط مكرر والعوامل واحدة، والغفلة سيدة المشهد على مر العقود والتجارب.

فجرًا خرجت لمحطة القطار، لا أحد في الشوارع، وفي الجو هواء خالطته رحمة الله وأنفاس الطاهرين، وأصوات بائعي السوق في طريق المحطة، وصوت بداخلي يناجي الله (اللهم اجعل لي في القاهرة حياة علم ودعوة، وانطلاقة خير، اللهم لا تردني خائبًا.. تنتظرني رحلة طويلة، وفي داخلي أسئلة كثيرة لم أجد لها جوابًا.. دقات ساعة جامعة القاهرة تدق فتزلل نفس الغريب المسافر في تلك المدينة المزدحمة السريعة، الناس هنا كأنهم في شغل دائمًا ولو كانوا عاطلين! في حزن أبدًا ولو كانوا فرحين، لا تجد من يلقي عليك السلام وكأنَّ الكل غريب.. والكل مسافر، الجو مشحون ببقايا الغضب، والميادين مزدحمة بأرواح الشهداء، لا فراغ في الرؤية ولا فيما وراء الرؤية، وكأنَّ عالم الغيب والشهادة قد اجتمعا في القاهرة، وكأنَّ الناس في سكرة!

في غمرة هذا الحزن وذلك التيه دخل علينا في قاعة من قاعات دار العلوم العامرة، شيخ في التسعين من عمره، لا يكاد يعرفه أحد منَّ الطلاب، يتحسس خطواته، وتخرج الكلمات منه بحساب وقدر، الحزن في عينيه، وكأن بريقهما قد انطفأ منذ زمن بعيد، ولقد عرفته لأول وهلة، ولشد ما كانت سعادتي به، وكأنَّ الدنيا قد بدأت تفتر عن شفتيها الباسمتين لذلك الشاب التائه الحزين، فلقد سمعت اسمه مرّات ومرّات في نسخة صوتية لكتاب طوق الحمامة للإمام ابن حزم الأندلسي، أتاني اسمه في طيات موسيقى تقديم الكتاب.. حققه وحرر هوامشه الطاهر أحمد مكي.

 

يا بني كنَّا في أعماركم نشارك في السياسة والعلم وكل شيء، ثمَّ نظر إلى القاعة الهائجة المضطربة.. وقال: أما أنتم فكما ترى!
يا بني كنَّا في أعماركم نشارك في السياسة والعلم وكل شيء، ثمَّ نظر إلى القاعة الهائجة المضطربة.. وقال: أما أنتم فكما ترى!
 

ثم يغيب اسمه في حضور الكلام عن الحب، أستاذي الدكتور الطاهر مكي أستاذ الأدب في كلية دار العلوم العامرة، دخل ليدرسنا أولى محاضراته في تاريخ الشعر الجاهلي، لم يبدأ بتعريف نفسه وبدأ بالشعر والحديث عن الكتب والمكتبات والمخطوطات، والعلم والعلماء، وكان يحفظ ذلك كله، المخطوطات وفروق النسخ، والطبعات ويفاضل بينها، أدخلنا عالمًا من السحر، وطرقت آذاننا أسماء علماء ومحققين لم نسمع بهم من قبل، وكان أستاذنا الشيخ الطاهر يسافر في حديث الذكريات أثناء المحاضرة، وكأنَّه أراد أن يعطينا شيئًا مع العلم قبل العلم، فلمَّا لم يعجب الشيخ مستوى الطلاب، أخبرنا أنَّه دخل هذه الدار وهو يحفظ أحد عشر ألف بيت من الشعر، وألفية ابن مالك، وقبل هذا القرآن الكريم، آلمه ذلك التيه في عقولنا ونظراتنا الزائعة وحركتنا الزائدة.

ولكن شيئًا لفت نظري في أولى صفحات الكتاب الذي يدرسه لنا أستاذنا، بدا لي إهداء الكتاب ملغزًا ومحيرًا (إهداء.. إلى مسافرة!)، فعرفت أنَّ المسافرة هي حبيبته التي حرم منها في بلاد الأندلس، فترهبنت في ديرها، وترهبن هو في صومعة العلم، وظلَّت في قلبه كأشد ما تكون ذكرى غرناطة الباسلة في نفس مسلم عربي صادق، لا يفتؤ يذكرها ويبكيها، فلا هو قادر على السلو ولا هي قادرة على العودة، واستبدت بقلبي قصته وذكراه وحزنه، وبدا لي أستاذي كشيء من التاريخ شيء مقدس، وآنس صوته روحي وعقلي.. وذات يوم صعدت إليه على المنصة وجلست على ركبتي بين قدميه، أسأله عن إشارة سريعة ألقاها في حديث ذكرياته الجميلة، فقد ألمح للأستاذ البنا، فلم أشأ أن أفوت الفرصة، وسألته بعد المحاضرة.

هل حضرتك قابلت الإمام البنا؟ نعم.. وقد كانت بيننا رسائل، كنت أريد أن أكوّن أسرة في بلدتنا في صعيد مصر، وراسلته في ذلك، ورد عليَّ برسالة جميلة، ما زالت في مكتبتي! لقد كان رجلًا نبيلًا، وكان يأسر قلب مستمعيه، -ثم وهو يبتسم- كان ذو صوت أثير في نفس كل من يسمعه! فلمَّا رأي دهشتي، نظر في عينيّ وقال: يا بني كنَّا في أعماركم نشارك في السياسة والعلم وكل شيء، ثمَّ نظر إلى القاعة الهائجة المضطربة.. وقال: أما أنتم فكما ترى! وهمَّ سيدي بالانصراف وتركني حائرًا، أما أنتم فكما ترى.. ومن هنا تبدأ حكاية أخرى، نحكي فيها حكاية معاهد العلم في القاهرة الحزينة، وإلحاد من ألحد وأشياء أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.