شعار قسم مدونات

جمهورية الخوف.. هكذا تهدد الحرب مستقبل اليمن

blogs اليمن تعز

في نهار السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر من العام 1962م وُلِد اليمن الجمهوري الجديد، وظلّت ولادة الجمهوريّة لمدة صراع حرب أهليّة امتدت لخمس سنوات بين الجمهوريين والملكيين، ولادة قيصريّة أخرجت اليمن الجمهوري بعد فقدان أمل خروج هذا الجنين بعد معاناة آلام ولادته الكثيرة. عاشت اليمن الملكيّة فترة من "عَدم" ما قبل الولادة، هامشيّة ومعزولة، وأملت أن ترى العالم ويراها من خلال تبنّيها لنظام جمهوريّ تقدميّ حديث، يجلب الحريّة والسلطة للشعب الذي طال ما عاناه من تهميش وإقصاء وسلب لحريته. هذه الآمال كانت وقود ثورات ومحاولات لإخراج مولود اليمن الجديدة، الجمهوريّة، آخرها كانت ثورة السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر التي كللت بنجاح الولادة، ولو كانت قيصريّة!

في بداية الثورات، انتفاضة ثارات بين أفراد، لم تتبنى هذه الانتفاضة حلم الجمهوريّة بعد، كانت هذه الانتفاضة هي ثورة 48 (ثورة الدستور) الذي قُتِل فيها الإمام يحيى حميد الدين على يد متمردين بقيادة القردعي في حِزيّز. وهذه الانتفاضة قدّمت تاج الملكيّة لإمام آخر، هو عبدالله الوزير الذي حكم اليمن الملكيّة "الجديدة" لثلاثة أسابيع فقط، أُعدم بعدها عقابًا وثارًا من إمام اليمن أحمد بن يحيى حميد الدين لأبيه، قائد الثورة المضادة التي أعادت المتوكليّة لملكيّة اليمن. كانت هذه الانتفاضة، أو ثورة الثارات، مجرّد تنشيط للملكيّة في اليمن، ولم تكن بعد قد حملت حلم الجمهوريّة بعد، لأنّ ملهمي هذا الحلم ما زالوا في ذلك الوقت لم ينعموا بحلم الجمهوريّة بعد.

ولادة الجمهوريّة كانت حدثًا عظيمًا، ومنحنًا كبيرًا في تاريخ اليمن، فقد أعطت لأوّل مرة زمام الحكم للشعب، الشعب الذي كان أغلبه في ذلك الحين لا يعرف معنى "الجمهورية"

توالت سنين حكم الإمام أحمد في اليمن، إلى انقلاب 55 بقيادة الثلايا الذي قرر هو ورفاقه تسليم تاج الملكيّة لأخ الإمام أحمد، إلى الإمام عبدالله بن يحيى حميد الدين، إمام اليمن الجديد في حلم انتفاضة الثلايا. لم يكن هذا الانقلاب أيضًا قد حمل حلم الجمهوريّة أيضًا، ربما لأنه لم يكن مُلهمًا من خارج رقعة اليمن الملكي المعزول، الغريب عن الجمهوريّة، غير الآنس لها بعد. أُفشل هذا الانقلاب وأُعدمت كلّ قياداته، وظلّت الأمور على ما هي عليه منذ 1948م، إلى أن أتى يوم 19 أيلول/سبتمبر عام 1962م حين أُعلن عن وفاة ملك اليمن المتوكليّ، الإمام أحمد، وتسلّم التاج نجله الإمام محمد البدر.

كان موت الإمام أحمد إنذارًا لانتهاء الملكيّة دون انتفاضة، فقد جُهّز نعشها مع نعش الإمام أحمد، ولم تفِ وعود الإمام الجديد محمد البدر بالتحديث والتجديد بالغرض، فقد أدرك حاملو حلم الجمهوريّة بأن هذه الوعود ما هي إلّا لتنشيط وتجديد عهد ملكيّة جديدة في اليمن. لم يكمل الإمام محمد البدر أسبوعه ملكًا إلّا وقذائف دبابة الثورة (مارد الثورة) تشعل قصر البشائر في صنعاء، أحد قصور الملكيّة في صنعاء. بهذا بدأت ولادة الجمهوريّة الصعبة، فالتفاف بعض القبائل مع الجانب الملكي أطال أمد الحرب الأهليّة وصعّب ولادة الجمهوريّة الجديدة، إلى أن انتهت بولادة الجمهوريّة بشكل تام في عام 1967م.

ولادة الجمهوريّة كانت حدثًا عظيمًا، ومنحنًا كبيرًا في تاريخ اليمن، فقد أعطت لأوّل مرة زمام الحكم للشعب، الشعب الذي كان أغلبه في ذلك الحين لا يعرف معنى "الجمهورية". قُدّمت الجمهورية لليمن على طبق من "حديد"، بعد معاناة وحروب، ولم يستطع قادة الجمهوريّة في اليمن التعامل معها كما يجب، فالمولود البِكر سرعان ما أصبح غريبًا عليهم، فتحوّلت ملامحه وتشوهت سريعًا، ولم يكن هو ذات الحلم الذي راودهم لسنين عديدة. من أوّل لحظاته اختفى تدريجيًا مع اختفاء حاملي حلم ولادته واحدًا تلو الآخر، من اغتيال إلى هرب، وأُطبق عليه مع بقائه وحيدًا في مجال فارغ من مبادئ الجمهوريّة الحقيقيّة.

من محاولات تصحيح للمسار، ومحاولات لإعادة الجمهوريّة، وانقلابات واغتيالات، كلّها باءت بالفشل الذريع، وهذا الفشل مهّد لصناعة جمهوريّة مستعارة أمام الشعب، لإخفاء فشلٍ في إنقاذ الوليد. هكذا أصبحت الجمهوريّة قناعًا تختفي خلفه "ملكيّة" تملّكت اليمن الجمهوريّ وسيطرت عليه باسم مبادئ "ثورة الجمهوريّة". وتحت هذا القناع توحّدت "جمهوريّة" السادس والعشرين من سبتمبر مع "جمهوريّة" الرابع عشر من أكتوبر، ولأنهما نتاج بعضهما، وكادا أن يكونا توأما أمٍّ واحدة، فقد كان مصيرهما أيضًا واحدًا.

الخوف اليوم ليس على ضياع جمهوريّة اليمن في ظلّ هذه الحرب العبثيّة، الخوف هو من اعتماد الجمهوريّة الأولى الكائنة قبل الحرب، والرغبة في العودة إليها على أنها الأساس
الخوف اليوم ليس على ضياع جمهوريّة اليمن في ظلّ هذه الحرب العبثيّة، الخوف هو من اعتماد الجمهوريّة الأولى الكائنة قبل الحرب، والرغبة في العودة إليها على أنها الأساس
 

ظلّت اليمن على حالها، مطليّةً بلون الجمهوريّة، تحتفل كلّما مرت ذكرى ولادتها، وتموت جمهوريّتها كلّ الأيّام مدفونة مخفيّة عن عيون الشعب، فلا يدركون معنى للجمهوريّة ولا يعرفون شكلها. صنّاع دمى وأقنعة الجمهوريّة هم من يشعلون شموع عيد ميلادها كلّ سنة، وهم ذاتهم من يطفئون تلك الشموع كلّ مرة تمرّ فيها ذكرى ولادتها. تحت كلّ شعارات ثوريّة رنّانة، جاء لفظ الجمهوريّة، لكنّها لم تظهر يومًا بغير اللفظ، لم تكن يومًا بغير مانشيت أو صورة أو لوحة كبيرة، فلم تكن في واقع حياة المواطن، أو في سيرة يومياته، أو في مشاركته في صنع قرارٍ لبلده.

فالخوف اليوم ليس على ضياع جمهوريّة اليمن في ظلّ هذه الحرب العبثيّة، الخوف هو من اعتماد الجمهوريّة الأولى الكائنة قبل الحرب، والرغبة في العودة إليها على أنها الأساس. الخوف من عدم الرغبة في تصحيح المسار من جديد، والخوف من استمرار جهل معنى الجمهوريّة الحقيقي، والخوف هو من فقدان الأمل والحلم الجديد في خلق الجمهوريّة الحقيقيّة من جديد. وليس الخوف من فقدان الجمهوريّة، لأنّ فاقد الشيء لا يفقده، وهذه اليمن التي بدأت بفقدان جمهوريّتها منذ ولادتها مع ولادة يوم الـ26 من أيلول/سبتمبر من عام 1962م، هي بالطبع غير مهددة بفقدان جمهوريتها المستعارة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.