شعار قسم مدونات

أن تمتلك عقلا وتؤمن بالخرافات الاجتماعية.. هل يجتمعان؟

مدونات - الأحكام المسبقة

يعرف الإنسان في حياته اليومية ممارسة لعادات وتقاليد موروثة وسائدة، وتلقيه لأفكار وأراء غيره دون فحص وتحليل معمق لها، وهو ما أثار جدلاً واسعاً بين أغلب الفلاسفة نظراً لحساسية وأهمية هذا الموضوع. ولعل أبرز الفلاسفة الذي تتطرق لهذا الطرح، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، فالأحكام المسبقة هي الآراء والمواقف المتأتية إلى الذات المفكرة من قبل سلطة الغير دون سابق إنذار أو فحص وتحليل لها، أي أنها أحكام متعالية على الفلسفة رافضة للشك والنقد، أو أنها أفكار وأراء يتلقاها الكبير والصغير على حد السواء على نحو تلقيني مدرسي يخضع لسلطة الغير، كسلطة الآباء على الأبناء أو سلطة الملك على شعبه.

ولهذه الأحكام عدة منابع، من أهمها بالأساس المحاكاة والعادة أي بالأحرى السائد المألوف، إذ يقول كانط: "إن المنابع الأساسية للأحكام المسبقة هي المحاكاة والعادة والميل". وتبعاً لذلك، فإن لهذه الأحكام تأثير هام على الإنسان وبالأساس على الذات المفكرة. فالمحاكاة يتمثل تأثيرها في كون ما أقره الغير هو الصواب والحسن، أي تميز سلطة الغير بالقوة الجبارة. أما العادة فهي تجذر الأحكام في وعي الإنسان وتجعله غير قادر على التخلص منها. إذ تعتبر العادة هي عائق من عوائق التفكير بالنسبة للإنسان، بالإضافة إلى فإن الميل يقود الفرد إلى الفعل السلبي والعكسي، أي الفعل العفوي التي تحكمه قوانين الغي. ما يمكن استخلاصه هو أن الإنسان يعيش في سجن من الأحكام المسبقة والجاهزة، أيضا غياب الوعي التام للكثير من البشر بمعنى قد أصبح الفرد يعيش حالة اللاوعي. فالذات في حالة ركود ذهني وفكري ومن خلال هذه الوضعيات يمكن تشبيه الإنسان بقطعة خشب ملقاة بوسط بحر هائج.

يجب الإشارة إلى أهمية التفكير الفلسفي والذي يتمثل في تحرير الفرد من الأوهام والتقاليد، جديد له أكثر حرية، أكثر طمأنينة وتوازن نفسي..

إذن فالأحكام المسبقة هي الحاجز بين الإنسان وبين ذاته المفكرة وكل منابعها تجعل الإنسان خاضع لسلطة البداهة: سلطة الحيرة، الدهشة والجهل بالواقع. باعتبارها خانقة للإنسان، كان لا بد من التخلص من تلك الأحكام المسبقة، وللتخلص منها وجب ايجاد سبيل ودور للعقل باعتباره العلامة المضيئة والمميزة للإنسان عن سائر الكائنات الحية. فالذات المفكرة ترفض سلطة الأخرين وتجاربهم ولو كانت ناجحة بدون فحص وتحليل، إذ تعتمد على العقل في مواجهة هذه الأحكام من خلال التفكير والتحليل وخاصة التفكير الفلسفي، فغاية الفلسفة بالأساس تحرير الفرد من السائد والمألوف، ويكون ذلك انطلاقاً من البحث عن الحقيقة واليقين والسبيل إلى ذلك، إلا بالاعتماد على آليات التفكير الفلسفي كالشك والنقد. يستلزم على الإنسان العزم على شك جذري وكلي، عزم قائم على الإرادة، القوة والشجاعة الفكرية فدور العقل يتمثل بالأساس في الثورة على ما هو سائد ومألوف، يعني الرفض وقول الحقيقة أي بالأحرى الالتزام بمبادئ وقيم الفلسفة القائمة على رفض الفكر القديم المتصلب النابع، خاصةً من الفكر الديني، فالواقع والعالم في حاجة لتغيير جذري وكلي.

في تطرقنا للحديث عن قيمة تحرير العقل من الأحكام المسبقة مما يجب الإشارة إلى أهمية التفكير الفلسفي والذي يتمثل في تحرير الفرد من الأوهام والتقاليد، جديد له أكثر حرية، أكثر طمأنينة وتوازن نفسي، بعيد كل البعد عن شواغل ومشاكل غيره أو اهتماماته. بتحرير العقل يصبح الإنسان مبدع، فنان وأكثر تحمل للمسؤولية ودليل على نجاح المشروع الكانطي نسبة للفيلسوف الألماني ايمانويول كانط في جعل الإنسان في ثورة على جميع الأصعدة المتأزمة. ولئن كانت الأحكام المسبقة عائقاً للتفكير أمام الإنسان فإن حذفها ورفضها من حياته تعتبر مسح لهوية الإنسان ولماضيه. يعني جعل الإنسان في هوة بين ماضيه، حاضره ومستقبله. ولو أنه في سجن من الأحكام المسبقة والمسقطة وتحت سلطة البداهة فإن هذه المستويات تنهار عندما يطرح الإنسان سؤال "لماذا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.