شعار قسم مدونات

نحن من المسجد للجامعة.. حكاية المعنى والتيه!

blogs الثورة المصرية

أطفال في الحادية عشر من عمرهم، وجدوا أنفسهم في مسجد كبير -في آخر شارعهم الصغير- يقرأون القرآن على شيخ مبتسم ذي لحية يقطر منها الوقار، يبدأون في التاسعة إلى أن تقع شمس الظهيرة على الأرض، تنير قلوب الأطفال بضوئها، وتصهر بحرارتها اللطيفة معاني القرآن في أرواحهم، ثم تنتهي حلقة التحفيظ بألوان من الألعاب يشارك فيها الشيخ أطفاله الصغار.. هكذا كنَّا نبدأ يومنا في الصباح الباكر في تلك الأيام القريبة البعيدة.

تمر علينا الأيام في كتَّاب مسجدنا؛ ونجد أنفسنا بين يدي الشيخ قد اصطفانا لنفسه من بين أطفال الكتَّاب، يدرس لنا التجويد من كتاب البرهان، ونحفظ الأحاديث من كُتَيِّب صغير مكتوب عليه (الأربعون النووية)، ثم نجلس في حلقة بعد صلاة الجمعة لقراءة كتاب التبيان في آداب حامل القرآن، وكتب أخرى استطبنا أسماءها وأحببنا معانيها، لما فيها من تمييز لنا عن أطفال الكتاب العاديين، وكذلك فيما تخلقه في نفسونا من معانٍ لم نعرفها قط من قبل.

تزداد صلتنا بالشيخ، فنعرف أن للمسجد أنشطة رياضية وترفيهية، وإذا بنا في يوم جميل من أيام طفولتنا في حافلة صغيرة ذاهبين إلى الشاطئ مع شيخنا الجميل، نلعب الكرة، ونستحم في مياه البحر المتوسط الذي يزين رأس مدينتنا، ومن جديد تضع أشعة شمس الظهيرة أضواءها على صفحة البحر، وتهمس فوق رؤوسنا بموعد صلاة الظهر، فنخرج لنصلي ونأكل ثم نستأنف النشاط من جديد.

لم نكن نلعب في تلك الأوقات بقدر ما كنَّا صفحة بيضاء يكتب فيها المسجد والكُتَّاب معانيه، عرفنا فلسطين والقدس، والشيشان، والبوسنة والهرسك، وصبرة وشاتيلا، عرفنا أطرافًا من الأخبار عن عالمنا الإسلامي، وعايشنا حرب الفرقان مع المحتل الصهيوني لحظة بلحظة في جامعنا ومدرستنا وبيوتنا، نبكي لدعاء المساجد حولنا ونحن في قاعات الدرس في المدرسة والحزن يعصف بنا عصفًا، ولا يبكي غيرنا.. ولم نفهم لماذا!؟

انتهت مرحلتنا الثانوية، وانتهت معها أحلامنا، ودب الشكُّ محل اليقين، وحلَّ التيه محل الرشد، ورأينا العَلمَ الواحد صار أعلامَا، والشيخ الحبيب القريب صار بعيدًا

كنا نمتلك معنى لوجودنا ونعرف غايتنا ووجهتنا، كلٌّ منَّا كان يحمل همًّا لدينه وأمته ودولته، بأصابعه الصغيرة يخطُّ كلامًا عن الأمة والأخلاق والعلم، ويلقيه على الناس دبر كل صلاة عصر في اليوم الذي يحدده له الشيخ، وكتبت أنا عن الأندلس وأسماء بنت أبي بكر، وشبابنا الضائع.. هكذا كتبت على كل حال وخرجت ألقي في الناس كلمتي الطفلة من ورقتي الطفلة.

ويدور الزمان دورته علينا، ونكبر وتكبر أحلامنا ونفوسنا، ويكبر المعنى ويشق طريقه نحو الاكتمال، ثم تطرق آذاننا أصوات الثائرين في تونس، وتحتل أخبارها من نفوسنا جزءًا كبيرًا.. كبيرًا كعمرنا الذي بلغ الخامسة عشر، ونسير في الشوارع ونسمع الناس يتهامسون بأخبار الثورة وامتدادها في تونس، ويتناجون على استحياء بسؤال من أعماق نفوسهم.. (هل تصل روح الثورة إلى مصر؟.. هل يقوم المصريون بهذا العمل العظيم؟).. لم تتأخر الإجابة طويلًا ودكَّت الثورة بروحها قلوب المصريين وأخرجتهم إلى الشوارع، تسارعت بهم الأحداث، فأوقفتهم على مصارع شبابهم في كل مكان خرجت فيه المظاهرات، وتسقط أجساد شبابهم على أرض مصر الطاهرة، وتصعد أرواحهم إلى السماء، وترسم دماؤهم الزكية مسارًا جديدًا في حياة المصريين.. الناس ثائرون والمسجد والشيخ والكتّاب في صمت عميق، لا حديث عن الثورة، لا حديث عن التحرير، ولأول مرة يتيه المعنى بداخلنا، وتسرب قليل من الضباب في أفق رؤيتنا!

وقليلًا قليلًا بدأت أخبار الثورة تصل إلى أسماع الشيخ ويجري بها لسانه، ونسمع الشيخ ينادينا لنتجمع حول الحزب..! حزب..؟! نعم وقام الحزب وقامت معه أنشطة لا داعي لذكرها، وتأبى نفوسنا أن تسير في هذا الركب.. إلى هنا انتهت مرحلتنا الثانوية، وانتهت معها أحلامنا، ودب الشكُّ محل اليقين، وحلَّ التيه محل الرشد، ورأينا العَلمَ الواحد صار أعلامَا، والشيخ الحبيب القريب صار بعيدًا، والمسجد الذي كان يصنع فينا المعنى ضاق حتَّى بأسئلتنا الصغيرة، وفجأة وجدنا أنفسنا خارج المسجد.

 

وعلى أبواب الجامعة، وصلناها وهي تغلق أبوابها دوننا، وتختفي فيها أشكالنا وهويتنا، وتكثر فيها أيضًا أسئلتنا ولا جواب.. وصار يونيو شهرًا في حياتنا يأتي ليمحو المعنى وينكأ جراح الذكريات، فقد حدثت هناك في أرض القاهرة أحداثًا لم نشهدها، ورويت لنا من زملائنا، دفعة الثورة كما نسميهم، وهنا محل حكاية أخرى أحكيها في يوم ما.. لا اتحاد للطلاب ولا حفل استقبال من أبناء التيار الإسلامي، ولا صلاة في مساجد الكليات والسكن الجامعي.. ونرى إخواننا في تيه كبير، وكل سؤال نسأله لا جواب عليه، ويكبر التيه في نفوسنا وتضيق مساحة المعنى، وتضيق علينا الأرض بما رحبت، ونجد أنفسنا خارج كل التيارات الإسلامية، وتبدأ من هنا حكاية أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.