شعار قسم مدونات

صديقي الذي تملّكهُ الفتور!

blogs تأمل

على مقعدٍ فريد تجلس وحيدًا، تنظر في الفضاء الفسيح، عيناك متصلبتان وكأنك ترى خارج العالم، كأنهما اخترقا خضرة الأشجار المتراصّة أمامهما ليذهبا بعيدًا إلى عالمٍ آخر، بأحداث مختلفة وأناس آخرين، تجلس ها هُنا منذ فترة ليست بقصيرة، وكأنك ارتضيت لنفسك تلك الحياة في ذلك العالم الآخر.

 

في أبحر الكلمات المرتّبة، وعلى أشرعة العبارات الهائمة أعلى سفينة المعاني الخفيّة والباهتة، وأنت تبحر تحاول فهم المقصود المخبّأ خلف الجمل المنمّقة، والمضمون اللامترابط خلف الأفكار المتشعّبة، تأتي أمواج الفتور لتجتاح كل هذا، وتذرك وحدك وعقلك خاويين، تحاول الوقوف مرارًا وتكرارًا ولكن هيهات يا صديقي لقد تملّكك الفتور!

 

فتور ممتد عبر أيام متتالية، وأحداث متراكمة، فتبدو مغتربًا عن المألوف في نفسك، فتلك الجزيئات المتناهيةِ الصغر التي تمر عبر ساعاتك كل يوم صارت أشبه بمستعمِرٍ دخيل يحاول أن يحتلّ مقومات عقلك، فيحرك أفكارك نحو الجمود معتبرًا ذلك نصرًا في عرف الملل.. تحلم بأن يأتي سهم مارق فيمزِّق أستار ذلك الحجر المتصلّب على حركاتك وهمساتك وكلماتك وأنفاسك، ربما أحلامك، فتتحوّل إلى مجموعة من الأشلاء المركّبة لتبدو في النهاية شخص ما يتنفس، وكأنك على قيد الحياة.

 

والفتور هو فترة زمنية تجتاح الإنسان كليًا، كمرضٍ يتشبّث بأطرافه ويتوغّل داخله صانعًا حاجزًا ليكون حائلًا بينه وبين إبداعاته وأعماله، فيفرض عليه واقعًا غير واقعه، وحياة روتينية مملة مليئة بالتيه والخمول، خالية من الإبداع وأحيانًا خالية من أداء الواجبات على وجهها الصحيح.

 

صديقي الذي يتملّكك الفتور لا تجعله يأكلك، ذلك الشبح المقيت قد سلب منك شغفك، وجعل أيامك سنواتٍ مظلمة لا تمر، أوقفَ عقارب الساعات، أو جعلها تهيأ إليك أنها تسير إلى الخلف

إنه ذلك الشبح الذي يأتي فجأة فيسلبك أسبابك وإمكانياتك، ويذرك وحيدًا تعثو في الظلام الأيام وأنت لا تملك أسباب الخروج منه!، عندما تجلس منفردًا تحاول العبث بأفكارك لتخرج منها شيئًا فما يخرج إلا رفاتًا لا يحرك ساكنًا ولا يسمن ولا يغني من جوع!

 

ويظل المرء ماضيًا في طريقه، آخذًا أساب الوصول مسلكًا إلى حلمة، يعبر الأمواج العاتية، والقمم الشاهقة، والطرقات الشائكة، والسدود المنيعة، وفي لحظة ما، وعلى حين غرّة يجتاحه الفتور، فيتجمّد إلى أجلٍ غير مسمى، فإما أن يخرج منه سريعًا، أو يظل قابعًا في مكانٍ غير معلوم، لا يدري كيف وصل إليه، ولا يستطيع أن يفسّر ما حدث إلا حاجزًا اعترض طريقه، فيبقى بعيدًا منعزلًا لا يريد اختلاطًا أو حديثًا حتى يأذن الله له.

 

في هذه المرحلة تتراكم الأفكار، وتأتي تباعًا على الأذهان، ويأخذك الشرود إلى العواقب التي لم تحدث، فترى الأعاصير وهي تختلع جدران أحلامك، وترى سقف الأمل يخر فوق رأسك، وترى نفسك بعد شهيق ممتد أوله من أعماقك وكأنك في طريق غير معلوم الهويّة.

 

صديقي الذي يتملّكك الفتور لا تجعله يأكلك، ذلك الشبح المقيت قد سلب منك شغفك، وجعل أيامك سنواتٍ مظلمة لا تمر، أوقفَ عقارب الساعات، أو جعلها تهيأ إليك أنها تسير إلى الخلف، الوقت لا يمر، والأحداث تكاد تكون متشابه، تشعر أنه لا جديد، لأنك بالفعل لا تستطيع أن تصنع جديدًا.

 

الخروج فقط، لا حل آخر، هناك طموحات وأحلام مرتقبة، والنجاح يا صديقي لا يتنظر النائمين، كما الحب لا يعترف بالجبناء، الواقفون سيتأخرون عن الوصول، وهذا الوقت المهدر ما هو إلا اقتطاع من وقت الوصول المبكر، كلما تماديت في التأخير كلما كان وصولك شبه مستحيلًا، لأنه سيصبح بعد فترات من الوقوف المتكرر بعيدًا كل البُعد، حتى يخرج من دائرة الممكن، إلى دائرة المستحيل، ويبقى عالقًا هناك، حيث الأحلام المبتورة، والأماني التائهة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.