شعار قسم مدونات

أزمة الديمقراطية الليبرالية.. هل من دور للإنترنت في الإصلاح؟

blogs الانترنت، لابتوب، إصلاح المجتمع

الرئيس دونالد ترامب وبطريقته المثيرة للأعصاب وقف يوماً أمام تجمع حاشد في مدينة ديلاوير بولاية أوهايو يهتف فيهم بأنه سوف يقبل بنتائج هذه الانتخابات الرئاسية التاريخية ولكن إذا فاز هو بها فقط. كان هذا في شهر أكتوبر عام 2016 أثناء الحملة الانتخابية، وبعيد الجولة الثالثة من المناقشات الرئاسية التي جرت بينه وبين منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. شكل هذا التصريح صدمة للتيار العام من أتباع الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة. فلأول مرة يخرج عليهم مرشح رئاسي يتوعد بعدم قبول نتائج الانتخابات إذا لم يكن هو الفائز فيها، وهو ما يعني بنظرهم تعطيلاً لواحدة من مفاخر الديمقراطية الليبرالية الغربية ألا وهي التبادل السلمي للسلطة.

إن صعود الرئيس ترامب إلى منصب الرئاسة قد يعدُّ واحداً من أبرز أعراض توعك الديمقراطية الليبرالية على المستوى العالمي. إنه لمن العسير وضع هذا الرئيس الجدلي في خانة قيادات أو رموز الديمقراطية الليبرالية الغربية وذلك بالنظر إلى شخصية ترامب، وأفكاره، ونظرته للعالم، وطريقته في إدارة الأمور، وتوجهاته السياسية. بل على العكس، لقد أصبح الرئيس ترامب المثال الأوضح عالمياً لما بات يطلق عليه بالديمقراطية غير الليبرالية illiberal democracies وهي الأنظمة التي تدعي أنها تمثل الشعب بشكل حقيقي، ولكنها لا تولي اهتماماً كبيراً بالحقوق الفردية أو المعايير الدستورية.

 

وكثير من الباحثين يشير إلى هذا النمط من الديمقراطية بأنه ديمقراطية الحركات الشعبوية. وبتعبير ياسشا مونك مؤلف كتاب الشعب مقابل الديمقراطية The People Versus Democracy فإن الليبرالية غير الديمقراطية هي أسلوب الحكم الذي يحافظ على الحقوق إلى حد ما ولكن على حساب المشاركة الديمقراطية والمساءلة. ويمكن التفكير بهذا النمط من خلال النظر إلى الحكومات التي بات يسيطر عليها نخبة من السياسيين المتملقين، المتحالفين مع بارونات المال وجماعات الضغط والمصالح الذين لا يهتمون بمصالح الناس العاديين.

5 بالمائة فقط من سكان العالم يعيشون في ظل ديمقراطيات حقيقية، بينما يرزح ما يقرب من الثلثين تحت وطأة حكومات استبدادية صريحة

وتشير الكثير من المعطيات الحديثة إلى حالة التوعك التي باتت تصيب الديمقراطية الليبرالية. فحسب تقرير مؤشر مدركات الديمقراطية The Democracy Perception Index – DPI لعام 2018، وهو برنامج مصمم بالأساس لقياس مدى ثقة المواطنين بأداء الحكومات، فإن غالبية الناس في جميع أنحاء العالم يشعرون بأنه لا قيمة لصوتهم في السياسة 51 بالمائة وأن حكوماتهم لا تتصرف وفق مقتضيات مصالهم 58 بالمائة. ولدى الكثير من هؤلاء المستطلعة آرائهم القليل من الثقة في أن حكوماتهم قد تشكلت من قبل الشعب وتعمل من أجل الشعب.

أما الأكثر إثارة للدهشة حسب التقرير فهي أن خيبة الأمل العامة هذه تسجل أعلى مستوياتها في الديمقراطيات الليبرالية في الغرب مقارنة بالدول غير الديمقراطية. فما يقرب من ثلثي الأشخاص 64 بالمائة الذين يعيشون في الدول الديمقراطية يعتقدون أن حكوماتهم نادراً أو لا تعمل أبداً لصالح الجمهور، مقارنة بـ 41 بالمائة من الأشخاص الذين يعيشون في دول غير ديمقراطية. وعند سؤال أفراد العينة عما إذا كانوا يعتقدون بأن صوتهم ذو أهمية في السياسية، فإن أكثر من نصف من يعيشون في الديمقراطيات 54 بالمائة يقولون بأن أصواتهم نادراً أو لا تهم في السياسة مقابل 46 بالمائة في غير الديمقراطيات. وتعد الديمقراطيات الأوروبية من بين البلدان التي يشعر فيها معظم المواطنين بأن لا صوت لهم في السياسية مقارنة مع الديمقراطيات الأخرى المدرجة في الاستطلاع مثل كوريا الجنوبية والتي تحقق أفضل النتائج بهذا الصدد، بالرغم من أن 42 بالمائة من السكان فيها يشعرون أيضا بأن صوتهم لا يهم.

أما مؤشر الديمقراطية السنوي، وهو تقرير تصدره مجلة Economist ويعتمد على قياس الديمقراطية وفق عدة معايير رئيسية هي: نزاهة العملية الانتخابية، والتعددية، والحريات المدنية، والفاعلية الوظيفية للحكومات، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية، فقد أظهر أن من بين 167 دولة شملهم التصنيف لهذا العام 2018 فإن مؤشرات الديمقراطية تراجعت في 89 دولة من بينهم الولايات المتحدة الأمريكية التي حصلت على 7.98 من أصل 10 محققة انخفاضاً عما كانت عليه في السنة الماضية حيث سجلت 8.24 في العام 2017، وبذلك بات تصنيف الديمقراطية الأمريكية حسب التقرير في خانة الديمقراطيات المعيبة Flawed democracy، هذا وتجدر الإشارة إلى أن التقرير يصنف الأنظمة وفق أربعة خانات هي: الديمقراطية الكاملة، الديمقراطية المعيبة، الأنظمة الهجينة، والأنظمة الاستبدادية.

وفي سياق متصل، أظهر التقرير بأن 5 بالمائة فقط من سكان العالم يعيشون في ظل ديمقراطيات حقيقية، بينما يرزح ما يقرب من الثلثين تحت وطأة حكومات استبدادية صريحة. ويعزو التقرير سبب تراجع الديمقراطية إلى التراجع الحاصل في الثقة الممنوحة من قبل الشعوب للمؤسسات الديمقراطية، بالإضافة إلى الاستقطاب الحاد بين الأحزاب السياسية حيث باتت المؤسسات الديمقراطية عاجزة عن تلبية الوعود التي قطعتها على نفسها تجاه تقديم الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون. هذا فضلا عن تراجع دور القانون في تقييد السلطة الممنوحة للمسؤولين. فحسب ميشيل فوكوياما فإن الديمقراطية الحديثة نشأت عندما توافق الحكام على الانصياع لقواعد رسمية تحد من نفوذهم، وتُخضع سيادتهم لإرادة أكبر عدد من السكان كما تم التعبير عنه من خلال الانتخابات.

باتت تكنولوجيا المعلومات توفر منصات إلكترونية من شأنها تعزيز دور مشاركة الفرد في عملية صنع القرار والتعبير عن رأيه بحرية ورفع سوية المؤسسات الديمقراطية بما ينعكس بشكل إيجابي على ثقة المواطنين بها
باتت تكنولوجيا المعلومات توفر منصات إلكترونية من شأنها تعزيز دور مشاركة الفرد في عملية صنع القرار والتعبير عن رأيه بحرية ورفع سوية المؤسسات الديمقراطية بما ينعكس بشكل إيجابي على ثقة المواطنين بها
 

لا شك بأن تراجع الديمقراطية على المستوى العالمي سيفتح الباب أمام مزيدٍ من عدم الاستقرار، فمنذ صعود الديمقراطية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر خصوصاً مع ابتكار التلغرام، أصبح هناك انطباع عام بأن الدول ذات الأنظمة الديمقراطية لا تنشأ بينها الحروب. لقد كان هذا الانطباع هو الادعاء الأساسي لما بات يعرف بنظرية السلام الديمقراطي والذي يقضي بأن الأنظمة الديمقراطية أنظمة سلمية بالطبع، وتسعى لحل نزاعاتها بالوسائل السلمية، ولا تلجأ للحرب إلا كخيار أخير نظراً لأن قرار الحرب مرهون بالموافقة الشعبية.

 

وكلما انتشرت الأنظمة الديمقراطية كلما كان النظام الدولي أكثر أمناً وسلاماً. ولذلك فإن تراجع الديمقراطية يعني أن النظام الدولي سوف يصبح أكثر عرضاً للنزاعات والحروب، فقد أخبرنا التاريخ الحديث أن وضع حد للديمقراطية في ألمانيا على يد الحزب النازي عام 1933 قد سرع من المواجهة الكبرى التي حدثت في الحرب العالمية الثانية وقادت إلى كارثة هي الأعظم في التاريخ الإنساني راح ضحيتها 60 مليون إنسان. ربما لا يُفسر غياب الديمقراطية الأسباب الكاملة للحرب العالمية الثانية ولكنه يبقى أحد أهم الأسباب.

إن المأزق الذي تعاني منه الديمقراطية الليبرالية دفع بالكثير من الباحثين والمنظرين وأصحاب الرأي للبحث عن وسائل وأساليب للخروج من هذا المأزق، ومعالجة الاعتلال الذي أصبح هذا النوع من الديمقراطية يتصف به. وبالحديث عن الديمقراطية الليبرالية الحالية فإن النموذج الحاضر في الأذهان هو نموذج الديمقراطية التمثيلية الذي يقوم على مبدأ اختيار ممثلين عن الشعب من خلال انتخابات عامة ينوبون عنه في عملية إصدار التشريعات ومراقبة السلطة التنفيذية.

 

إن إحدى الحلول المطروحة هو بالابتعاد عن نموذج الديمقراطية التمثيلية والتفكير بالعودة من جديد إلى نموذج الديمقراطية الجماهيرية أو الديمقراطية التداولية deliberative democracy مستفيدين من تكنولوجيا المعلومات التي باتت توفر منصات إلكترونية من شأنها تعزيز دور مشاركة الفرد في عملية صنع القرار والتعبير عن رأيه بحرية ورفع سوية المؤسسات الديمقراطية بما ينعكس بشكل إيجابي على ثقة المواطنين بها. وقد بدأ الحديث حول الديمقراطية الرقمية Digital Democracy أو الديمقراطية السائلة Liquid Democracy كإحدى الخيارات المطروحة للخروج من الأزمة يأخذ زخماً متزايداً في الدوائر المعرفية ودوائر صنع القرار، وهو ما يفتح المجال للتساؤل حول جدوى الانترنت في الإصلاح الديمقراطي؟ وهل ستشكل الديمقراطية الرقمية أملاً في نجدة الديمقراطية كنظام سياسي من السقوط؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.