شعار قسم مدونات

ما بعد الحداثة.. زمن أفول سلطة الرأسمال الرمزي

blogs مجتمع

بالأمس، وفي طريق العودة مررت رفقة صديق بمنصة لتنظيم مسابقة مفتوحة لمهارة الرقص على أنغام الضجيج المنظم (ديدجي)، فشدنا تجمع الشباب الغفير المصطف فوف مدرجات الساحة الفسيحة لخطف نظرة مختلسة. والمفارقة أن اسم الساحة يرمز لدلالة فكرية –الأغورا-، ومجرد سماعه يذكر بالنقاش الحامي الذي عرفته أثينا بين الفلاسفة والسجالات الكلامية التي دارت في جنباتها حول قضايا كبرى (أصل الكون، الإنسان، الأخلاق، المنطق، الحقيقة…).

 

غير أن هذه الدلالة الفكرية غابت عن ذهن الجمهور المتفرج الغارق في التصفيق، والصفير، وتشجيع المتبارين على مهارة الالتواء والتمايل حول الجسم بطريقة مرنة، وتحت إيقاع أصوات موسيقى صاخبة. في مقابل عدد من المبادرات الفكرية التي احتضنتها هذه الساحة ولم تلقى نفس الإقبال. هذا المشهد أجبرني للتساؤل حول من يصنع وعي الفرد اليوم؟ وما سبب أفول سلطة الرأسمال الرمزي (الأفكار)؟ 

في ستينيات القرن الماضي كتب هوبرت ماركوز كتابه الشهير "الإنسان ذو البعد الواحد"، الذي خصه لتحليل المجتمعات الرأسمالية وجرد تناقضاتها الداخلية. وكان مرمى ماركوز هو الإجابة على سؤال كبير سبق أن تطرح من قبله: كيف أن الثورة لم تتحقق، بل باتت مستحيلة في عالم يمتلك منذ أكثر من قرن القوة الكلاسيكية للثورة (أي البروليتاريا الصناعية)؟ وكان جواب ماركوز مؤلم، حيث اصطدم بالواقع واعترف بأن هذه القوة الكلاسيكية كما هو في النظرية الماركسية تم احتواءها من طرف الرأسمالية. كون هذه الأخيرة تملك أساليب لقمع كل فعل احتجاجي وتمرد فكري، والتي تستمدها من بنيتها التقنية التكنولوجية.

 

مبتغى القوى الاجتماعية المهتمة بالرأسمال الرمزي هو إشاعة رأسمالها الرمزي بالرهان على تغيير الوعي، وبالتالي يتغير السلوك تبعا ليغدو الفرد إما (متدينا، تقدميا أو ليبراليا…)

حيث أن الطاقة الهائلة التي بات يتمتع بها المجتمع المعاصر، مجتمع التكنولوجيا والصناعية المتقدمة وما تحقق له هذه الطاقة من هيمنة على الفرد تتجاوز من بعيد كل أشكال السيطرة التي مارسها المجتمع في الماضي على أفراده.. ففي المجتمع ما بعد الصناعي يميل فيه جهاز الإنتاج إلى أن يحدد الحاجات الفردية والنشاطات الاجتماعية والمواقف (1). ويخلص ماركوز إلى أن فعل التغيير لن يتحقق بما هو كائن (إصلاحية وانتهازية العمال)، بل بضرورة تملك هذه القوة التقنية من طرق طبقة مغايرة. فالإنسان لن يتحرر من التكنولوجيا إلا بواسطة التكنولوجيا وعن طريق تحريرها (2).

عود على بدء، إن الذي حملني على عرض أطروحة ماركوز النقدية، هو وجه الشبه بين الإشكالين، ولجعلها مرشدا لنا في فك أحجية إشكالنا، فبالرغم من تباين السياق لكن يبقى الجواب واحد. وعليه يمكن بسط السؤال بوضوح: لماذا بات العمل الثقافي (الرأسمال الرمزي) أقل تأثيرا في الأفراد رغم التقنيات المتوفرة لتقريبه منهم؟ 

لا شك، أن جواب السؤال الثاني مضمور في الجواب الأول. إذ، نجد أن كل القوى والحركات الاجتماعية المهتمة بالرأسمال الرمزي (أفكار دينية، ليبرالية، اشتراكية…) تحاول التذكير به وتسعى جاهدة لتوسيع دائرة تداوله في المجتمع. إذ تعمل على مخاطب وعي الناس والتأثير فيه من خلال الخطاب (وعظ، محاضرات، كتب، مجلات، ندوات، حلقيات…).

 

إذن، نصل إلى أن مبتغى هذه القوى هو إشاعة رأسمالها الرمزي بالرهان على تغيير الوعي، وبالتالي يتغير السلوك تبعا ليغدو الفرد إما (متدينا، تقدميا أو ليبراليا…). لكن، الملاحظ أن هذا الرهان يسقط عند كل اختبار؛ حيث أن تأثير هذا الرأسمال الرمزي يكاد يكون منعدم في سلوك الفرد، بالرغم من مخاطبة وعيه ومعرفته به. فمثلا، الجميع يسمع للواعظ وإرشاداته التربوية (تحريم العلاقات الجنسية، العفة، التبذير…)، غير أن عمل الجوارح يخالف معرفة الوعي (علاقات رضائية وغير رضائية، نزعة استهلاكية…).

 

وبالتالي، فالإشكال ليس في غياب الوعي، بل في معاكسة السلوك له. بالإضافة إلى ضعف الإقبال على الندوات والأشكال الثقافية المختلفة، وقلة الانخراط في الجمعيات المدنية والاحزاب السياسية للمشاركة في نقاشات حول مواضيع سياسية وفكرية راهنة. وعليه، يمكن القول أن السبب كامن في الرهان على وسيلة تقليدية للتأثير في وعي وسلوك الإنسان، حيث تبث محدوديتها لأنها تتجاهل حتمية التطور التاريخي خصوصا في هذه اللحظة التاريخي؛ فقد استنفذت جدواها في ضبط وتوجيه السلوك الإنساني.

 

وكما يقول عالم الاجتماع الأمريكي بروس مازليش لم يعد بمقدورنا أن نفكر في الإنسان بمعزل عن الالة. بالإضافة إلى أننا اليوم في زمن ما بعد الحداثة (مجتمع ما بعد الصناعي، مجتمع استهلاكي) الذي غذت فيه التقنية تلعب دورا مهما في نبذ المفاهيم النقدية والاعتراف بالواقع كسلطة. فالتحول الاقتصادي الاجتماعي المفروض الموضوعي هو الذي يؤثر في فكر الإنسان ويجعله يبني قناعاته (3).

 

وجب الاعتراف بأن الاكتفاء ببناء الوعي وتغيير السلوك من خلال الفكر (الرأسمال الرمزي) بمعزل عن التقنية (الرأسمال المادي) لما له من دور حاسم في تحديد ذوق وأفكار الفرد هو تكرار لنفس تجربة الفشل
وجب الاعتراف بأن الاكتفاء ببناء الوعي وتغيير السلوك من خلال الفكر (الرأسمال الرمزي) بمعزل عن التقنية (الرأسمال المادي) لما له من دور حاسم في تحديد ذوق وأفكار الفرد هو تكرار لنفس تجربة الفشل
 

وهذا معناه أن الاشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكال تكنولوجية بشكل جديد.. وقد غزا الواقع التكنولوجي ذلك المجال الخاص، وضيق نطاقه. فالفرد مأخوذ بجماع شخصه في عملية الإنتاج والتوزيع الكبرى. وهذا التقدم التقني يجعل من العقل (الوعي) خاضعا لوقائع الحياة، ويصبح مفهوم الاستلاب إشكاليا عندما يتوحد الأفراد مع الوجود المفروض عليهم ويجدون فيه تحقيقا وتلبية. وتصبح الذات المستلبة مبتلعة من قبل وجودها المستلب (4). فالنموذج النيوليبرالي السائد يدمج الفرد في منظومته، ويطوعه لصالح مبادئه المادية البعيدة عن كل سرديات كبرى تساعده على التعالي. ومثال ذلك هو العرض الفني المذكور المُنظم في ساحة تحمل دلالة تعارض محتواها بل تحت على "فعل التفلسف" لا فعل "السيولة". 

وهنا نصل إلى القاسم المشترك بين السؤالين، فمحاولة ماركوز النقدية أظهرت له حقيقة الواقع التاريخي، وبذلك اعترف بسلطة الألة (الرأسمال المادي) في احتواء الطبقة العاملة وفشلها في الممانعة لأن رهان بناء الوعي فقط (تملك الفكر الثوري أي الرأسمال الرمزي) كان ضعيفا أمام القوة التكنولوجية وقدرتها على تدجين الآراء المعارضة. وهذا يدفعنا أيضا إلى نحو نفس المنحى، والاعتراف بأن عملية بناء الوعي بالاعتماد على قوة وتأثير (الرأسمال الرمزي) لن ينجح في بلوغ المبتغى المطلوب.

وبالتالي، ليس الحل هو القفز على الواقع لتعارض حقيقته مع نوايانا. فالتاريخ لا يسير بمنطق النية أو الإرادة، بل بشروطه التاريخية الموضوعية وقوى التطور الغالبة دائما. وعليه، وجب الاعتراف بأن الاكتفاء ببناء الوعي وتغيير السلوك من خلال الفكر (الرأسمال الرمزي) بمعزل عن التقنية (الرأسمال المادي) لما له من دور حاسم في تحديد ذوق وأفكار الفرد هو تكرار لنفس تجربة الفشل. لأن أول شروط تغيير الواقع هو الخضوع له والاعتراف به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:
1- الإنسان ذو البعد الواحد: هوبرت ماركوز. ترجمة جورج طرابيشي.

2- نفس المصدر السابق.

3-  نقد الفكر اليومي: مهدي عامل. دار الفارابي بيروت.

4- الإنسان ذو البعد الواحد: هوبرت ماركوز. ترجمة جورج طرابيشي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.