شعار قسم مدونات

عقيدة البهلوان (6).. اللي بيحب النبي يصفِّق!

blogs عرس شعبي

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد انهزم ناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوبًا عليه بحجفة "أي: مُحِيطٌ بِهِ بِتُرسٍ لِيَحمِيَه"، وكان راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: انثرها لأبي طلحة، ثم يشرف "أي: يتطلع وينظر" إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت، لا تشرف ألا يصيبك سهم، نحري دون نحرك يا رسول الله".. (رواه البخاري).

 

إن حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر من غيرهم، وذلك لأن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بعلوِّ قَدْرِهِ وسموّ منزلته أعلم وأعرف، فكان حبهم له أشد وأعظم وأصدق، فكانوا أحرص الناس على طاعته، وأسرعهم إليها، فأحبُّوا ما أحبّ، وكَرِهوا ما كَرِه، وقد ظهر هذا الحب واضحًا جليًا وبصورة عملية في مواقف كثيرة، ومنها ما حدث في غزوة أحد، فكان لسان حالهم ومقالهم: "نحري دون نحرك"، "كل مصيبة بعدك جلل" يا رسول الله..

 

في أحد شوارع المدينة وفي تلك الليلة الهادئة من الليالي الأولى لعام أربعمئةٍ وتسعةٍ وثلاثين بعد الألف من هجرة الرسول الكريم التي سبقت هذه التضحيات بأعوام قليلة.. هدوء يصحبه نسمات الهواء وأصوات الأطفال تتهادى من بعيد، مع أجواء صافية لا يشهدها هذا الشارع كثيرًا، بينما كنت أسير متأملًا ظهرت أنوار عالية وبدأ صوت المكبّرات يطل من بعيد ليعكّر صفو هذه الليلة وهدوئها..

 

ذلك الجمع المشوّه من الداخِل – أو كما آراه أنا- والذي بدا عليه علامات السعادة المزيّفة التي لم يكن سعيدًا بقدرها وإنما هو مغيب، كمسخٍ مشوَّه اختلط بداخله الفرح والهزل

تحكم العادات السائدة في الأفراح أشياء كثيرة من أفعال الكثيرين المقتنعين تمامًا بأن الفرح بدونها لا يكون فرحًا.. تبدأ هذه العادات من التجمّع في أحد الشوارع وتنتهي على حسب مقدرة صاحب العُرس من الإنفاق.. من مكبراتٍ للصوت ومشروبات كحولية وراقصات المسرح وما إلى ذلك من الأشياء التي تعدّ من أساسيات الفرح بالنسبة له!.. يبدأ العرس بعدما تعكّر صفو الليلة وهدوئها، بأصوات المكبّرات التي تحدِث بالفعل ضجيجًا لا يراه أصحاب الشأن أنه هكذا، بأسماء الله الحسنى، في محاولة منهم لجلب البركة للعرس، وتبرير الضجيج الذي سيحدثونه بعد ذلك!..

 

أحيانًا يطلب الناس، المزيد من البركة من الله وفتح أبواب الرزق والخيرات بالمبارزة والعصيان، ونحن نعي أن النعمة اللامشكورة إلى زوال فكيف تكون هذه الحياة التي يسرها لنا الله حين تبدأ بهذه المبارزة!.. يختلف مفهوم الفرح عند الكثيرين، فالكل يرى الفرح فيما يدخل السرور على قلبه، فترى للفرح تفاسيرٍ كثيرة متغيّرة وممدودة، وستظل تتغير مع تغير البلدان والطوائف والعادات..

 

اقتربت أكثر من العرس حيثُ التجمّع وأنوار الزينة الملونة التي تلوح يمينًا وشمالًا، ووجوه كثيرة تملؤها البساطة والبهجة ويغمرها الفرح بأن وفقهم الله لقيام هذا العرس في منزلهم أو حيّهم، بعد عناء ومشقّة، ولكن لوهلةٍ وأنا أتعمّق في وجوههم شاهدت ما يعكس هذه الرؤية الجميلة التي رأيتها منذ لحظات.. على بعد أمتار كان المسرح المصغّر، مساحة يقف فيها شاب يحمل مايكرفون في يده، يتمايل قليلًا ويتمتم ببعض الكلمات كي تتماشى مع الأغنية الشعبية المنبعثة من مكبرات الصوت التي يحملها المسرح خلفه، ليهتف في وسط الكلام وكأنه يريد تشجيع الحاضرين على الاندماج معه في رقصته قائلًا: اللي بيحب النبي يصفّق!..

 

لم يكن الأمر صعبًا حال وقوعه على أذني لتكراره الشديد في التجمّعات سواءً كانت الأعراس أو المناسبات الشبابية.. ما لفت انتباهي هو ذلك الجمع الذي قام مذعورًا يصفق بحرارة شديدة كخيلٍ هبّ مسرعًا عقب لسعة سوط من سائِق عربة الكارو المعلّقة في رقبته.. ذلك الجمع المشوّه من الداخِل – أو كما آراه أنا- والذي بدا عليه علامات السعادة المزيّفة التي لم يكن سعيدًا بقدرها وإنما هو مغيب، كمسخٍ مشوَّه اختلط بداخله الفرح والهزل، فصار كظلٍ مبتور، لا يستطيع أن يفرّق بين الفرح والألم!..

 

ذلك الجمع الذي حرّكه حب النبي لأن يفعل ما يملى عليه بدون وعي أو تفرقة أو علم بما يفعل، هو فقط يعمل لأنه محبًّا مخلصًا للنبيّ أو زاعمًا ذلك الحبّ.. يجعلنا نقف نتأمل حالنا لأننا جميعًا داخل ذلك الجمع حتى ولو لم نصفق، نحن داخل إطار يجمعنا جميعًا قد أعد لنا بإحكامٍ مسبق، وقواعد صارمة طبّقت علينا بعناية فائقة لنخرج بهذه الصورة، ما الذي تغيّر؟.. ما الذي غيّر هذه المبادئ "نحري دون نحرك يا رسول الله" و"أفديك بأبي وأمي" من مبادئ الإفتداء والتضحية والحبّ، إلى تداعي الحب بالتمايل والرقص على إسم النبي الكريم، ما الذي حوّل الحب من ساحات المعارك التي كانت تصل في النهاية إلى الفتوحات، إلى ساحات اللهو، لنتحول بحبّ النبي من فاتحين إلى راقصين!..

 

إنّ "حيّ على الجهاد"، و "وامعتصماه" تلك النداءات التي كانت تلبى حيال ندائها، لم تكن لتلبى إلا من رجال يحبّون الله ورسوله ويعبّرون عن ذلك الحب حقًا، بالقيام وتحقيق النصر لها بافتدائها بالمال والنفس والأهل، لا بالتمايل على أنغام السكر، والتخلّي عن الرجولة بأفعال قد تسلب المروءة والشهامة..

 

نحزن عندما نعلم أن هذا التمايل وهذه الأفعال هي ثمرة حُب النبي كما زعم المنادي أعلى المسرح، وتابعه الجمع.. نحزن كل الحزن أنه يتمايل لأنه سمع داعيًا يدعوه لذلك وهو لا يعلم أنه يفقد مروءته ورجولته بهذه الأفعال، بل والطامّة الكبرى أنه يفعلها بدافع قويّ يسمى الحبّ، وأنه إن لم يفعل سيخرج فورًا من دائرة المحبّين وربما من الدين، لأنه يعصى هذا الحب الأعظم المزعوم..

 

عندما غابت تعاليم الإسلام عنا، نشأنا في مجتمع لا يعرف تلك الهتافات التي كانت تصنع الرجال، فخرجنا في تجمّعات هائلة ضخمة ولكننا كالعصف المأكول، لا نستطيع حتى إخراج أنفسنا من ذلك الإطار الذي أعِدّ لنا سابقًا، بل وأبدعنا داخل ذلك الإطار من تحويل أنفسنا من السيء إلى الأسوأ، دون المحاولة لإخراج أنفسنا وتحريرها!..

 

هذه الجموع التي تملأ جنبات الشوارع في المناسبات لا تستطيع رغم كثرتها أن تنصر دينها أو أن تدافع عن مقدساتها التي تسلب منه واحدة تلو الأخرى.. كنّا نتمنى أن نراها على عتبات القدس زاحفة لنصرته
هذه الجموع التي تملأ جنبات الشوارع في المناسبات لا تستطيع رغم كثرتها أن تنصر دينها أو أن تدافع عن مقدساتها التي تسلب منه واحدة تلو الأخرى.. كنّا نتمنى أن نراها على عتبات القدس زاحفة لنصرته
 

ولكن لمَ "الي بيحب النبي يصفق" وسط هذا كله، وما علاقة حب النبي بالتصفيق أو بالتمايل أو بهذه الأفعال، ولم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن الأب أو الأم أو الإبن؟.. لم ليست "اللي بيحب أمه يصفّق" رغم أن حب الأم هو حب فطري مجبولٌ عليه الجميع، فقلّما أو ربما تكاد لا تجد أحدًا لا يحب أمه، فيصفّق بحرارة لأنها أمه..

 

إسناد الأمر إلى غير أهله في أمور الدين، هي منهجية أهل الضلال واستهداف كل من لديه ذرة من عقيدة، حتى يجعلوه هشًا بأفكارٍ ومفاهيم مغلوطة، فيرى المعصية والطاعة والحب واللغط والعادة والشعيرة جميعهما سواء، يتعامل مع جميعهم من منظور ضيّق، فلا يستطيع أن يضع كل منهم في موضعه، أو يتعامل مع شيء منهم كما ينبغي لأنه لا يستطيع أن يفرّق بينهم!..

 

نموذج من الواقع يحدث أمامنا بصورة شبه يومية، في المناسبات مع اختلاف مسمياتها، هذا الجيل رغم ما فيه من شبابٍ واعٍ يحمل قضايا ألا إنه يكتظ بالآخرين -وربما هم أضعاف الشباب الواعي- البعيدين كل البعد عن قضيتهم – هم أصلًا مخوّخين لا يحملون قضيه وربما لا يعرفون معنى أن تحمل قضية- هم كثير ولكنهم نشأوا على هذه الأشياء التي ربما يجدون فيها سعادتهم أحيانًا!..

 

هذه الجموع التي تملأ جنبات الشوارع في المناسبات لا تستطيع رغم كثرتها أن تنصر دينها أو أن تدافع عن مقدساتها التي تسلب منه واحدة تلو الأخرى.. كنّا نتمنى أن نراها على عتبات القدس زاحفة لنصرته، أو في ميادين الجهاد تدافع عن دينها، الميادين الكثيرة كالجوامع والجامعات والطرقات وحتى وسائل التواصل، فهذه كلها ميادين للجهاد ولكن بصور مختلفة، وبخطط حرب مختلفة..

 

النبي الكريم خير من وطأت قدماه الأرض هو خاتم الانبياء حامل المنهج القويم التى تسير على خطاه البشرية ليست جماعة المسلمين وحسب بل كل إنسان يحمل فى قلبه ذرة من رحمة وعطف واحترام لكينونته.. طاعته من أحكام القُرآن "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ" (الأنفال -20)، وبغير سنته لا يُمكن أن يكون الدين، وبغير حبه الحب الذي يفوق حب الأهل والمال والولد والنفس لا يكمل إيمان المرء.. قال الله تعالى عنه في سورة النجم " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ" (الآية: 3).. "ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.