شعار قسم مدونات

هل تلعب اللغة بك؟ أم تتلاعب أنت بها؟

blogs اللغة العربية

س: هل تتحكم اللغة بي، أم أتحكم أنا بها؟
قال الطرف الأول: إن اللغة تحتّم علينا أفكاراً، وتفرض علينا رؤى، بل وإنها تقرر شكل رؤيتنا للعالم، واستيعابنا له، فنظرة الشخص الأمريكي إلى العالم World view تختلف بلا أدنى شك عن نظرة العربي له، وكذلك عن نظرة التركي أيضاً إلى العالم والفرنسي. لكنّ علّة الاختلاف المطروحة هنا ليست تنبع من فارق البيئة أو الدين أو الجغرافيا، إنما عن اللغة.

 

أحياناً تؤثر الحروف في معنى الكلمة ومدلولها، فمَثَل اختلاف الفاء عن الصاد مثل سعة (الفـيافي) -وهي الصحاري الواسعة- إذا ما قورنت بـ (الصحراء)، فالفاء تحوي فراغا في معناها –غالباً- كالفـوهة والفـسحة والفتحة والفضاء، وإلى جانب ذلك ليست السين بجمالها تشبه الظاء في شدتها، ومن هنا يُرى الفرق بين (السـفر) و(الظَّـعن)، لأن الأخير أعتى وأمرّ، كذلك لا يشبه أيّ منهما لفظة travel لأنها لا تثير في الأوروبي ما تثيره في عقل العربي وذهنه -وهو ابن ماضيه وتاريخه وحفيد جدوده- من سفرٍ على الجِمال وسط حر الجزيرة العربية، أو في الصحراء الكبرى مع قبائل صنهاجة تحت شمس الأصيل.

بل وفي مثال آخر يحوي أغراضاً سياسية وثقافية يقال: إن كلمة gay مصدرها اللغة الفرنسية، وتعني صفة السعادة أي (سعيد) وهو بادر عن نوع من التلاعب اللغوي في ظني، لكن الظن لا يغني من الحق شيئا، الأهم هنا أنها في تعريبها عُرِّبَت إلى (شاذ) باعتبارها شذوذا عن الجنسين، لكن التعريب الآخر ممن أراد دعم أغراضه الأيديولوجية عرّبها إلى (مِثليّ)؛ فهو مثلك ومثلي ومثل الجميع له كل الحقوق ولا إشكال تجاهه ولا مُشكِل، وقيل في تأطير آخر: هو مِثليّ أي مثل الجنس الأول والثاني لا يَميز عنهما بشيء ولا ينقص فهو ثالث.

ليست أي منظومة ألفاظٍ ومجموعة كلمات لغةً واحدة، إنما اللغة بالمعنى الذي نقصد هي كل نظامِ ربْط بين دالّ ومدلول، والدوال عندنا مختلفة المدلولات

وتأثير الحروف في مدلول الكلمة أو معناها يعني أن لشكل الكلمة سطوةً وأثراً، سواءً كانت في نفس اللغة أو في غيرها، فليست الكلمة وسيلة لإيصال المعنى أو أداةً بقدر ما هي جزءٌ من محتوى مدلولها، وكل حرف فيها يعكس انطباعاً، وكل أصل أو مصدر لها يعكس معنى أصليا مخفيا وراءها ومهماً. فإذا أضفنا إلى هذه المعلومة ملحوظة لغوية تُـذكِّرُنا بأنّ "تفكيرنا بأي شيء يتم من خلال الكلمة الدالة عليه"، نصل إلى نظرية linguistic determinism الحتمية اللغوية التي ترى أن بنية اللغة تحتّم على المتكلم أفكارَه ومعتقداته.

 

ولنختبر سريعاً هذه الملحوظة اللغوية بأن نحاول الآن في غضون عشر ثوان أن نتصور دون استخدام الكلمات أو التفكير بها حتى، أن نتصور أننا سنذهب سويةً في جولة إلى أوروبا براً نهاية آب / أغسطس الجاري، دون استخدام أي لغة في أذهاننا. هل نجحنا؟ لا أظن ذلك، وواهم من يظن..

الطرف الثاني: لو كان ذلك كذلك لكان كل من اشترك في لغة واحدة متوحدَ الأفكار، لأن الكلمات المستخدمة واحدة، وبناءً عليه فالأفكار والمدلولات واحدة، فلا اختلاف ولا فرق، وهذا غير مشاهَد عندنا -أي العرب- ولا حتى عند الناطقين بالإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية.

قال الطرف الأول: ليست أي منظومة ألفاظٍ ومجموعة كلمات لغةً واحدة، إنما اللغة بالمعنى الذي نقصد هي كل نظامِ ربْط بين دالّ ومدلول، والدوال عندنا مختلفة المدلولات كما نعرف، فالديمقراطية باعتبارها دالّةً لا تعكس عند شاب يعيش في الرياض منذ عشرين عاما ذات ما تعكسه عند شاب يعيش في لبنان وآخر يعيش في القاهرة، لأن الأول ينظر إليها باعتبارها أداة كفرية غربية تتعلق بالسياسة المحرمة، أما الثاني فيراها إجراءً شكلياً غير ذي قيمة، وأما شاب القاهرة فيراها غالباً أداة لتدمير الدول لأنها -بتصوره- أتت بحاكم "إرهابي" دمر البلاد وأهلك العباد، بسلطته التي استبد بها لفترة طويلة لا تُجاوز السنة.

 

ومن هنا كان الألماني فريدريك نيتشه يقول: إن قدرتك على إطلاق الأسماء وتعميمها يعني أن لديك سلطة، وهكذا يكون نيتشه متكلماً في الحالة المصرية عن سلطة الإعلام، وفي الحالة السعودية عن سلطة المشايخ ذوي الايديولوجيات المكشوفة. بل وكان مَن هم أعمق من نيتشه -في هذا المجال على الأقل- من مفكري مابعد الحداثة وأظنه رولان بارت قد قال بما معناه: إن كل ربط مهمٍ بين دال ومدلول يعني أن ايديولوجيا جديدة في طريقها للخروج إلى حيز الوجود. وهذا كلام بليغ الجمال بلا شك؛ لأن الربط بين الدال والمدلول موجود عند الإسلاميين في (الإسلام-الدولة)، وعند الليبراليين (الدولة-الحرية)، وعند الشيوعيين (الدولة-اللادين أو الملكية العامة).

فقال الطرف الثاني: لو كانت الحتمية الللغوية واقعاً كما قلتم؛ لانعدم الإبداع في كل المجالات، لأن التفكير -أي تفكير- هو في مرفأ اللغة، تحت ظلها وفي كنفها، وإذا كان الخروج من هذا النطاق لن يتم إلا برعاية اللغة، فلن يبدِعَ مبدِعٌ مُبدَعاً؛ لأن الإبداع هو إخراج غيرِ المفكَّر به إلى حيز الوجود، وغير المفكَّر به لا يمكن أن يُدرَك لأنه غير مُسمى، وبالتالي فليس موجوداً ولا يمكن أن يوجد.

قدرتنا على تصحيح المعنى إذا لم تناسبه الكلمة أو التعبير تدل بوضوح وجلاء على استقلالية المعنى عن اللغة ومفرداتها
قدرتنا على تصحيح المعنى إذا لم تناسبه الكلمة أو التعبير تدل بوضوح وجلاء على استقلالية المعنى عن اللغة ومفرداتها
 

قال الطرف الأول: هذه شبهة فيها مغالطة لن يتسع المقال لتفنيدها، لكنها تعتمد على تصورنا للوجود وهي قضية فلسفية محضة، ائتونا بغيرها حتى نختم.

قال الطرف الثاني: إن الأطفال ممن لم يجاوزوا السنتين، لا ينطقون ولا يقدرون على التفكير المنظم بقضية معينة، لكنهم يعرفون أن الفنجان يُشرب فيه الشاي، والملعقة يؤكَل بها، والبيت يعاد إليه مساءً عادةً للنوم والاستقرار، وهذا كله دون مقدرة منهم على صياغتها لغويا، بل وإن الشخص البالغ إذ يكتب قد يخطئ في التعبير عن جملة ما فيقول: لم أقصد ذلك إنما قصدت كذا، فيمسح ويكتب عودا على بدء، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على وجود ما وراء اللغة، وما وراء المَحكيّ، و "قصدية" المكتوب، والمعنى قبل إلباسه المبنى، وهو كله يعني الأفكارَ قبل بلورتها، ويهدم السقف على نظريتكم -أي الحتمية اللغوية-، وبعبارة أخرى: إن قدرتنا على تصحيح المعنى إذا لم تناسبه الكلمة أو التعبير تدل بوضوح وجلاء على استقلالية المعنى عن اللغة ومفرداتها.

فأنهى الطرف الأول الحوار قائلا: إذن نتنازل عما نظّرنا له ونكتفي بالقول: إن اللغة تساهم في تشكيل تصورنا عن العالم، ولا تشكله هي بذاتها، وتشارك في رسم فِكَرِنا وتحديدها، وليست هي أساسَها.. ولا تقدرون هدم هذه الحقائق على الأقل. فقال الطرف الثاني: نعم، مبدئياً صَدَقتم. 

ورأيي أن جوابا مقنعا لم يقدَّم –باستقرائي الناقص حتماً- على الإشكال الأخير للطرف الثاني إلى اليوم. وقد كان أبو حنيفة يقول: قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.