شعار قسم مدونات

سبعون عامًا لا سبعة عشر!.. عهد ليستْ القضية!

blogs عهد التميمي

لمنْ لا يعلم أو قد نسيَ أو تناسى، بدأت الأطماع الصهيونية في فلسطين منذ زمنٍ طويلٍ جدًّا ولكنَّ احتلالًا إسرائيليا لها حدث منذ أكثر من سبعين عامًا، تعاقبَ خلالها أجيالٌ كثيرة وأطُرٌ فكريَّةٌ على الثورة والسعيِ لتحرير فلسطين، فتشكَّل في مجتمعنا نسيجٌ فكريٌّ يحمل العديد من وجهاتِ نظر تجاه مسألةِ التحرير وسبُلِها ومعوَّقاتِها ومحدِّداتِها الزمانية والمكانية، ولذلك لمْ تكنِ القضية يومًا حِكرًا على أحد، ولا يصحُّ أبدًا لأحدٍ أنْ يلبسَ عمامتَها وينزعِها عن غيرِه، لأنَّها قضيِّةُ كلِّ مسلمٍ وعربيِّ بكلِّ الروابط المتاحة، إنَّها قضيِّةٌ تُدعى فلسطين، لا تتلخُّصُ أبدًا في معالمِ وجهٍ أو سُمرةِ جسدٍ أو شُقرَةِ شعرٍ، أو هزالةٍ أو بدانة، إنَّها تحيا -ويجب أنْ تكون- في قلوب الجميع بلا استثناء، فلا تكونوا قضاةً على أحد، بلْ دعاةً للقضيَّة!

 

عهد التميمي، فتاةٌ فلسطينيَّةٌ ككلِّ فتاة، شقرة شعرِها، عدمُ ارتدائها للحجاب، لونُ عينيها، كلُّ تلكَ الصفاتِ ليستْ غريبةً عنَّا في فلسطين، ونراها في كلِّ مكانٍ نذهبُ إليه، ولكنَّ سببَ اعتقالِها ليس كذلك، فتاةٌ تصفعُ جنديَّا مدجَّجًا بالسلاحِ، كانتْ لا تعلمْ إنْ كان سيفعلُ كحال أغلبِ جنودِ الاحتلال يُرديها قتيلةً برصاصة مُستعجلةٍ من بندقيته ثمَّ يدَّعي أنَّها حاولتْ طعنه، ولكنْ ربَّما وجود الأهلِ وكاميرا توثِّقُ الحدثَ ضبطا ردَّة فعلِه، ليُحيلَ الأمر لاعتقالٍ لها ولأمِّها لمدة ثمانية شهور، لتخرجَ بعدها عهدُ وسطَ زَخَمٍ إعلاميِّ ضخمٍ جدًّا، أثارَ سخطَ الكثيرين، ولكنَّه امتدَّ فيما بعد ليكون انتقادًا عنيفًا لشخص عهد، وتوظيفًا لنظرية المؤامرة، وتصيُّدًا لأيِّ زلَّةٍ تنطقُها فتاةٌ عفويةٌ تلقائية تغلبُ عليها البراءةُ وردَّاتُ الفعِل الطفوليَّة.

 

صفحاتٌ إسرائيليَّةٌ ناطقةٌ بالعربيَّة شغلُها الشاغلُ تصفيَةُ القضيَّة بنشرِ الأخبارِ المجتزئة بهدف خلقِ رأيٍ عامٍ يهدفُ لخدمةَ الاحتلال الإسرائيليّ، وهذا ما حدثَ فعلًا حينما اقتطعوا لعهد جزءًا من مقابلتها مع قناة RT الروسية الناطقة بالعربية تتحدثُ فيه عن حياتِها داخل الأسر، تصفُ فيه بكلِّ عفوية ساذجة وصدقٍ مشاعرَها ونشاطاتِها، لتتلقَّف الجماهير "الواعية" ذلك الخبرَ لتسوَّقَ -بجهلٍ- للدعاية الإسرائيليَّة التي تسعى لهدمِ كلِّ منْ يفكرُ أنْ يكونَ كعهد يمتلكُ جرأة وشجاعة منذ طفولتها، وكذلك تدمير كلِّ رمزية نجحتْ عهدُ في صناعتها على المستوى الدولي، فرغم رفض شريحةٍ كبيرةٍ من الفلسطينيين ثقافة عهد المنتميةَ إليها -إسلاميون بطبعهم- ولكنَّ إسرائيل لمْ تقبلْ أصلًا وجود فتاةٍ كعهد لها تقبُّلٌ دوليٌّ فخصَّصَ إعلامهم الصهيونيَّ مساحةً لردة فعل الجندي الذي ضبطَ نفسَه ولم يردَّ على عهد، والآن بوجه قبيحٍ آخر آرادوا تجميلَ أنفسِهم باجتزاء الحقيقة.

 

سبعونَ عامًا ما بكم؟!
هناكَ من عانى في السُّجون، هناك من قاسى بسببِ مرضِه أو عزله فتلكأت مصلحة السجون في علاجه، بل ضيقت عليه، ومنهمْ من عِشنا معهم ورأينا حالتهم تسوء

أكرهُ السجنَ والسجَّان، وأكرهُ كلَّ ما حصَلَ ومَا واجهتُ في البداية، تمنيتُ ألفَ مرَّة أنِّني لو لمْ أعرفْ السجون، اعتقالٌ في منتصف الليل، اقتيادٌ بلا ذنب، عُزلةٌ في زنازينَ دائمةِ الإضاءة، كثيرةِ البرودة، ضغطٌ وهمٌّ ونَكَد، تهديدٌ ووعيد، مكرٌ وخبث، وَحدةٌ قاتلة، أصواتُ صراخٍ وتعب، كلُّ شيء ساكن، والوقت لا يتحرَّك، تبًّا لذلكَ كلِّه ما أبشعَه! كان شهرًا في الجحيم، والجحيم في عالمهم دركات، وإنِّي لمْ أرَ منها إلا أبسطها، ثمَّ بعدَ ذلك إلى السجن، سمَّيته الإفراجَ الأول، مَعَ أنَّ السجانَ واحد، ولكنْ كانَ ذلك الشعورُ بفضْلِ الأسرى، لا يدعون لكَ فرصةً لتَيأس، لتحزَن، لتكتئِب، لا يدعونَ لك فرصةً للتقاعُس، ومنْ قال لكَ أنَّك جئتَ هنا لتجلسَ وتبكيَ على ما ضيَّعته من عمرك؟!

 

أنتَ هنا لتُعيدَ ترتيبَ نفسِكَ وفكْرِكَ وأولوياتك، أنتَ هنا في مدرسةٍ بل جامعة، لستَ وحدَك، كل شيء جاهزٌ ومُعَدٌّ، برنامجُ حياةٍ مُكْتَمِل، نشاطاتٌ، قراءةٌ، عبادةٌ، ثقافةٌ، كلُّ شيءٍ تعرِفُه ستفيدُنا به، ونحنُ نقدِّم لكَ كذلك كلَّ مَا نعرف، وبذلكَ زال عنِّي كلُّ هَمٍّ وحَزَن، رغمَ حرِّيتي المقيَّدة، رغم الأصفاد والقيود، رغم حملات القمع والتفتيش، كنَّا نشعرُ بالعزَّة والقوَّة، ففي السجن قَدْ أفلحَ الأسرى في خَلْق حياةٍ صالحةٍ للعيشِ بكلِّ قواعده الأساسيَّة، محاضراتٌ ومسابقات، حلقاتُ قرآنٍ وإنشاد، برنامجٌ لمشاهدةِ التلفاز إذْ تتوفَّر 5 قنوات متاحة، أمَّنُوا لنا كلَّ ما نحتاجُ شراءَه، منْ مكانٍ يُسمَّى "الكنتينا"-بقالة القسم-.

 

هذه الحياةُ لمْ نحصلْ عليها إلا بعدَ أنْ قدَّم الأسرى تضحياتٍ كثيرة، وتحدَّوا إدارةَ السجونِ أنْ يقْلِبوا السجن على رؤوسهم إنْ لمْ يحصُلوا على مطالبهم، وبالفِعْل حصلوا على الكثير، ووفَّروا لنا الكثير، مَا مِنْ أميٍّ إلا وعلَّموه القراءة، مَا مِنْ مدخن إلا ووضعوا كاملَ جهدهم ليُقلع عن التدخين، وضعوا برنامجًا للرياضة اليومية، لبناء الجسم، ورياضة أخرى لبناء العقل، وأضافوا مسابقاتٍ مسائية توزَّع على الغرف، ونجحوا في مواكبة المناسباتِ التي تحدثُ في الخارج، نعم عُزلنا عنْ أهلِنا، عن دراستِنا، عنْ أماكن عملنا، ولكنْ حرَصَ الأَسرى لسنوات وقدموا الكثير -منهم من قدَّم عمره- لنحصلَ على ما هو أكثر في السجون.

 

فهل أصبحتْ السجونُ جميلةً؟! هل بذلك جمَّلوا المحتلَّ؟! هل انتصارُهُم حتى رغمَ القيودِ والتضييقاتِ والقمعِ وحملاتِ التفتيشِ تلميعٌ للمغتصِب الإسرائيليِّ؟! أليس منكمْ رجل رشيدٌ لتقولوا ذلك؟! ماذا أصابكم لتَصُبُّوا جامَ غضبكم على طفلةٍ تتحدث ببراءة ساذجة عمَّا حصَلَ معها في السجون وهي لا تكذب، هي تحدِّثُكُم عن فرَحِها، عن لحظاتِها الجميلة، عن كل ما جعلها تشعرُ بالقوة، لتقولَ لكمْ أنَّها رغم القيد قاومتْ هيَ ومَنْ معَهَا وهذا صحيح، وكل كلامها صحيح، ومن دخل السجن يعرف ذلك.

 

في المقابل هناكَ من عانى في السُّجون، هناك من قاسى بسببِ مرضِه أو عزله فتلكأت مصلحة السجون في علاجه، بل ضيقت عليه، ومنهمْ من عِشنا معهم ورأينا حالتهم تسوء، ولكن ما ذنب عهد إن كانت بصحة جيدة؟! هل يجبُ أنْ تخرج من السجن معتَلًّة مريضةً بنصفِ قدمٍ وساقٍ لتشهدوا لها؟! عهد ككثير من الأسرى صحتُهم جيدة، وأجسامُهم بَنَوها بأدوات بسيطة، لأنهم لمْ يستسلموا، خَلَقوا واقعًا رغمًا عن أنفِ السجان، فعلوا الكثير من الأمور التي لا يتصورها عقل، اخترعوا أمورا من لا شيء، الأسرى نظيفون، مرتبون، وأنيقون، يسعَونَ دائما للظهور بمظهر قوي أمام مصلحة السجون التي تنتظرُ خَيبتهم وانكسارَهم ويأسَهم في كل لحظة.

إسراء الجعابيص وكُلُّ الأسيرات معها، تيجانٌ جميعًا، لا تفرِّقوا بينهن، كلهنَّ ينتمينَ لقضيِّة واحدة، تدعى فلسطين، تذكروا هذا دائما!
إسراء الجعابيص وكُلُّ الأسيرات معها، تيجانٌ جميعًا، لا تفرِّقوا بينهن، كلهنَّ ينتمينَ لقضيِّة واحدة، تدعى فلسطين، تذكروا هذا دائما!
 
إسراء الجعابيص وأخواتها الماجدات

إسراءُ عانَتْ، وقَاسَتْ، ولكنَّ ذلك لم يحدث داخلَ السجن، فالمقارنةُ بين صورتَيْ "عهد" و"إسراء" خاطئ، النسبةُ الكبيرةُ من الأَسرى داخلَ السجون أصِحَّاء، ولكن لِتَعْلموا أنَّ ظروفَ سجون النساء صعبةٌ جدًّا، لأنهنَّ قليلاتُ التعداد، وبالتالي لنْ يحصُلْنَ على الإنجازاتِ التي حقَّقها الرجالُ في السجونِ لكثرةِ عَددهم وقدرتِهم على فرضِ كثيرٍ من المعادلات، ولكنَّ المعاملةَ داخل السجنِ ذاتُها، ودونَ امتيازات، ثمَّ إنَّ "عهد" صُنِّفت من الأشبال، والأشبال دون سن ال 18 لهم حقوقٌ أكثر داخل السجون وهذا قانونٌ تعمل به إدارة السجنِ بشكل عام، لأنها وقَّعتْ على مواثيق، ولأنَّها تحاول أنْ تظهرَ ملتزمةً أمامَ مجتمعها الأوروبي، وليس رأفةً في الأسرى؛ فلو استطاعت لأفنَتهم ولقتلتهم كما يحدث في سوريا ومصر، ولكنَّ الاحتلال ملتزم -بدهاء ومكر- أمام المجتمع الدولي كمشروع ترويجٍ لنفسه وليس أنَّه يُولي عهد شأنًا على حساب الأسيرات، بل هذا كلام معيب ومجحف وداعم للاحتلال ويزيد من صحة رواياته الكاذبة.

 

إسراء وعهد وكلُّ الأسيرات عانين ذاتَ المعاناة على تبايُنها واختلاف درجاتِها، ألا يكفي السجنُ وحدُه ليكونَ مظلمةً كُبرى، بأيِّ حقٍّ نُسجنُ ونُعتقل ونُمنعُ من الحياة، عهد اعتقلت ٨ شهور ألا ترونها مدة حرمان طويلة، أعلم؛ هناك من قضى بالسنين، وهناك من سيقضي المؤبد، ولكنْ كلُّها معاناة، بأيِّ حقِّ تُحرم من سماءٍ بلا شبك لو يومًا واحدا؟! بأيِّ حقٍّ تُوضع في غرفة كعلبة كبريت تخرج وتدخل منها لساحة صغيرة جدًّا وبإذن الشجان، بأي حق تُمنع من احتضان أهلك وذويك، وتتحدث معهم لمدة ٤٥ فقط مرة واحدة كل شهر؟!

 

هذا هو الظلمُ، إنَّه الحرمان، أمَّا حياة السجن فأنا كذلك عِشتُها ورأيتُها جميلة، عشتُها مع خير الناس، في كنف الله، عبادة وطاعة وقيام ليل، أحيينا كل المناسبات الدينية والوطنية، تعلمنا الكثير، تفقهنا، ازددنا فهمًا وإدراكُا، وكلٌّ له نظرتُه في المتعة التي وجدها، وعهد لها نظرتها، وهذا ليس ضعفا وخيانة، بل هذا انتصارٌ على السجَّان، انتصارٌ على مَنْ راهَنَ أنَّ السجونَ ستُثني العزائمَ وستَحْني الهامات.

 

تحدَّثوا عن إسراء الجعابيص! تحدَّثوا عنها بذات الزخم الذي انتقدتمْ فيه عهد، افعلوا هكذا مع كُلِّ من يعانون داخل السجن، وصدِّقوني ستصلُ رسالةُ كُلِّ أولئك الأسرى للعالم، افعلوا شيئًا صحيحًا بدلًا من لغة الكراهية ولعنة التصنيف التي تمارسونها، اصدقوا أنفسكم ولا تكونوا عونًا للاحتلال على دقِّ ذلك الإسفين ليقسم ظهرَنا، ليُشَرْذِمنا. سأقولُها بملءِ فيهي: عهد لا ذنب لها.. إسراء الجعابيص وكُلُّ الأسيرات معها، تيجانٌ جميعًا، لا تفرِّقوا بينهن، كلهنَّ ينتمينَ لقضيِّة واحدة، تدعى فلسطين، تذكروا هذا دائما!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.