شعار قسم مدونات

ماذا لو صنعنا قواعد نحو لكلامنا اليومي؟

blogs اللغة العربية

لا شك أن أية لغة محكية شفويا تنطوي على نحو خاص بها يمكن تحويلها بشيء من التشذيب والتهذيب إلى لغة قياسية، تكون ذات نحو مستقل يمكن تعلّمه وتدريسه، وهذا في الواقع شأن كل اللغات، بما فيه لغة الضاد، ألم تأت قواعد الدؤلي تالية لفصاحة العرب؟ ألم يأت عروض الفراهيدي بعد إبداع المعلّقات؟ 

أظنّ أن استبعادنا فكرة صياغة قواعد لكلامنا اليومي يعود إلى الربط الوهمي بين اللسان العربي والنص الديني فتم إسقاط القدسية على الأداة، بينما لم تخرج سيرورة تكوّن اللسان العربي عن المسار الطبيعي لتكون كل لغات العالم والتي يمكن أن تتكون على غرارها الألسن التي أخصّص لها هذا المقال، أعني اللهجات الدارجة التي نستعملها في حياتنا المعيشية اليومية، فلكل لهجته اليومية التي يرضعها الولدان مع حليب الأم ويتحدثون بها مع أفراد الأسرة ويتواصلون بها مع الأقران منذ نعومة الأظفار فتكوّن فيهم حاسة الذوق وملكة المنطق لا شعوريا، فالمعضلة الحقيقية التي لا نشعر بها هي أن الطفل عندما يدخل المدرسة لأول مرة يجد كل ما تعلّمه في حياته السابقة مضروبا به عرض الحائط غير معترف به في الهوية الرسمية، وهذا أول عوامل انفصام الشخصية عن تحقيق المنافع الخاصة والعامة وانفصال الفكر عن الواقع.

إن ذلك لو حصل سيعالج ما قد لا يحصى من المشكلات التي نعانيها الآن، فهو وإضافة إلى ما تقدّم سيجمع تقنين قواعد للغاتنا الدارجة، التي نتداولها في حياتنا اليومية، الكثير من الإبداعات التي لا نلقي لها بالا ولا أهمية، أو في بعض الأحيان حتى نستهجنها لأنها لا تستعمل أدوات عمومية شاملة ومقنّنة سواء اللغة أو غيرها مما يشكل هويات الانتماء المحلي الذاتي، والتي لو اجتهدنا فيها لاكتشفنا وجهها السببي.. وأعني بتلك الابداعات مثلا الشعر الملحون والغناء الشعبي والإنشاد المحلي والفنون الخاصة وحتى بعض الاحتفاليات الفلكلورية؛ فكيف يمكنها أن تتنافس على التعولم (أي تتعولم وتصير عالمية) إذا لم تخضع للتقنين السببي والمنطقي سواء كان نحو اللغة أو غيره، إن إدراك إمكان ذلك وأهميته يجعلنا نفهم وندرك أن التغلب على تأخرنا عن الأمم يمكن أن نجد علاجه بأيدينا.

ذلك أن من الواضح أن ضبط معايير أي شيء يتضمن بالضرورة إصلاحه، ففضلا عن إصلاح منطق اللغة المحكية ذاته، سيعمل صياغة نحو خاص بها على إصلاح منطق المتحدثين بها، والرفع من منسوب الرقابة الذاتية داخلها، ذلك أن لاتعدٍّ على القواعد العامة إلا بسلطان الحجة والبرهان، وفي ذلك تنمية باطنية للضمير الفردي، هكذا يستحيل ضبط نحو اللغات الدارجة ضربا من الإصلاح العميق للفكر والنفس، فانظر تجد أن أعظم الخلل هناك.

لا حاجة إلى تأكيد أن اللغة العربية اللغة الأشمل والأتم والأجدى التعامل بها براغماتيا خلال اللحظة الراهنة، وأنه لا ضير من أن تصير أو تكون على غرار اللاتينية عند الأوروبيين
لا حاجة إلى تأكيد أن اللغة العربية اللغة الأشمل والأتم والأجدى التعامل بها براغماتيا خلال اللحظة الراهنة، وأنه لا ضير من أن تصير أو تكون على غرار اللاتينية عند الأوروبيين
 

ومعلوم تماما أن هذا ليس بالأمر الهين، فالأمر يحتاج إلى ترسانة من العاملين والإمكانات التي قد تتطلّب إشراف دول ومؤسسات كبرى، لكن لابد أولا من إدراك أهمية ذلك قبل كل شيء، لأن الكثير من دعاة التغيير ما يزال الوهم المتقدّم يتحكم في تصورهم للأشياء، فالدعوة إلى إحياء اللغات الدارجة هو استثمار مستقبلي مهم جدّا للأسباب التي تقدّمت، والتي يمكن التفصيل فيها وتطويرها إلى مؤلَّف مستقل بذاته، كما أعلم أن الكثير من الجهود التي تبذل في هذا السبيل متعثرة وتعثرها يعود إلى افتقادها الهدف الواضح من ذلك فضلا عن تلبسها بلباس الأوهام كذلك.

فماذا لو تمت صناعة نحو خاص باللهجة الخليجية وآخر للعراقية وآخر للشامية وآخر للمصرية وآخر للمغاربية وإعادة إحياء نحو الكردية والأمازيغية وغيرها؟ أليس هذا سيضعنا أمام تراث إبداعي نستلهم منه الكثير لمستقبلنا، وهو ما سينشئ أجيالا متصالحة مع شخصيتها ومرتبطة بواقعها اليومي، فلا نعتبر مثلا أن المواطن الذي يتحدث عن همومه اليومية على الشاشة أو في الواقع أنه يهذي فقط لأنه لا يتحدث بالفصيح! ذلك أن من النتائج التي ستترتب عن ذلك التخلص من عقدة الخواجة التي تتملك صاحب اللسان الفصيح لمجرد تميزه بها عن غالبية الناس، بينما سيسهل الإبداع أمام الكثيرين عندما يتمكنون من تفكيك طلاسم العلم بعد أن تصير لغاتهم الأم (أو لهجاتهم المحكية) مفتاحا للإبحار بهم في عوالم الرياضيات والمنطق والعلوم التجريبية، هكذا يمكننا تفسير إحدى منابع الانسداد الحاصل أمام الإبداع في عالمنا، فنحن نمارس دون أن ندري تجفيف منابع الإبداع عندما نمارس قطيعة غير واعية مع مخيالنا وحاستنا الفطرية التي يتعذر الإبداع من دونها.

وحتى أغلق منافذ سوء الفهم لابد هنا من أن نزيح من صورة هذا المقترح مُهجِّنوا اللغة الذين يخلطون بين اللغات التي لها قواعد مسبقا بالأصل مثل الخلط بين العربية والأجنبية بما هي ركاكة لا تليق بمن يتبوأ مناصب في العلم أو السياسة، فضلا عن الخلط بين العربية الفصيحة والدارجة مثلا، إنما هنا كلام عن اللهجات الفصيحة "القُحّة"، بما جمعته عبر زمان متطاول أقلّها سنّا لا يقل عمرها عن قرنين من الزمان، والتي تؤول هي الأخرى إلى فقد الكثير من كلماتها الأصيلة، ودون إغلاق الباب أمام التلاقح من كل اللغات بما يتناسب مع حاجتها، وكذا لا يمكن أن يتحقق المشروع باستعمال اللهجات طعما أو أداة للتمويه أو غيرها، لذلك لابد من بذل جهود نظرية في ذلك ليس لإقناع الجمهور بذلك إنما أيضا لتشريع ذلك فلسفيا ونظريا وبالعمق المطلوب، وفي هذا أيضا تجاوز لمعضلة الضعف اللغوي في اللغات القياسية بما فيها اللغة الأولى، أعني العربية، فيبدو من غير المنطقي ألا يحوز الناشئة المتمدرسون بعد سن العشرين أي لغة فصيحة بين أيديهم، ويكفي أن نتأمل في ذلك كيف أن الطفل الإنكليزي أو الفرنسي أو الصيني محظوظ أمام الأجيال المسكينة من أطفالنا.

أخيرا، لا حاجة إلى تأكيد أن اللغة العربية اللغة الأشمل والأتم والأجدى التعامل بها براغماتيا خلال اللحظة الراهنة، وأنه لا ضير من أن تصير أو تكون على غرار اللاتينية عند الأوروبيين، ومع التأكيد أيضا أنّ اللغات القياسية الأجنبية أيا كانت لا يجب أن تتعدى وظيفتها التفاعل مع العالم والمقابسة منه، ومن ثمّ فإن الفكرة ليست هي للتخلي عن العربية الفصيحة، بقدر ما أن الأمر متعلّق بالأسباب الهامة الآنفة الذكر، وأنه لا بديل حاليا عن العربية، وأن فترة انتقال طويلة يجب أن تحصل لنقل ما يجب نقله منها إلى اللغات الوليدة، وبالمناسبة فإن ذلك مما يسهل على طلبة العلم أن يكونوا مزدوجي اللغة ما يسهم في إنماء العقل عندهم وإثراء ملكة التفكير لديهم، فنتخلص من معضلة اللغة الثالثة مجهولة الهوية وفاقدة الفاعلية رغم ارتباطها الوثيق بتكوين البنية الذهنية والنفسية للفرد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.