شعار قسم مدونات

الجزائر في زمنِِ الكوليرا!

الجزائر

بعد أيام من ظهور أولى حالات الإصابة بالكوليرا، أجل الكوليرا في القرن الواحد والعشرين وفي الجزائر! بتوقيت خيبة الوطن، الوطن الذي يتراجع وقد هوى 20 خريفاً أو يزيد حتى ارتطم بذلك الوباء الذي اختفى منذ عشرات السنين وانحصر في بؤر المجاعات والحروب! بهذا التوقيت المتأخر وبعد إنكارٍ أوّلي للسلطات ووصفه بأنه عدوى موسمية لا أكثر، الكل يترقب تأكيد الخبر أو نفيه.

   

يطل علينا مدير معهد باستور (للوقاية والحماية الصحية ومراقبة الأمراض المعدية) مطمئناً! "اطمئنوا فالكوليرا ليست في الجزائر وحدها فقد سجلت هذا العام حالات أخرى في اليمن.. آآآ"، يتلعثم وهو ينبش عن دولة أخرى فيسارع الصحفي المحاور لنجدته "النيجر" يستعيد المدير كلماته ويكمل "النيجر، تشاد، أجل الكثير منها يتواجد فيها هذا المرض ولا تعلن عنه، أما سياسة الجزائر فهي الشفافية والشجاعة لقول ذلك، للأسف بلدان أخرى لا تفعل".

   

شكراً سيدي لقد تنفسنا الصعداء بعد سماع كلامك المقنع، لسنا لوحدنا فهناك من يكتوي بالكوليرا تضامناً معنا! شكراً فقد تم التأكد من الخبر وسلامٌ على الوطن، ثم منذ متى تقارنون الجزائر بدولٍ غزتها المجاعات ومزقتها الحروب؟! منذ فترة قورنت بالسويد وافتخر الأمين العام للحزب الحاكم بأنها أحسن الدول العربية كيف لا وهي تتذيل قائمة الدول ب 119/140 في مؤشر جودة التعليم في تقريرٍ حديث لمنتدى الاقتصاد العالمي "دافوس" ووزير التعليم العالي يصرح متشدقا "ماذا نفعل بجائزةٍ مثل نوبل وبماذا ستنفعنا؟!" صدقت ماذا تفعل نوبل في وطن ضائع هُمِش علماؤه أما عباقرته فقد تم اغتيالهم معنوياً وفكرياً أو فروا بعقولهم إلى الغرب، أما السويد فربما قصدوا تفوقنا عليها في الفساد وارتفاع معدلات الجريمة.
  

يدعونا وزير الصحة للارتياح فالقضاء على الوباء سيكلفهم 3 أيام لا أكثر! وما علينا نحن سوى إتخاذ تدابير وقائية وغسل اليدين جيداً والأصح أن تُغسَل عقولهم من تلك الأساليب والحجج الواهية

باختصار استطاع مدير معهد باستور والصحفي أن يلخصا المهزلة في هذا الوطن "الشخص الخطأ في المكان الخطأ" فالأحرى بهذا الدكتور أن يتكلم على نتائج التحاليل ويقدم حصيلةً موضوعية للمصابين ويعلن عن حالة طوارئ، لا أن يحدثنا كسياسي مخادع أو ناطق رسمي باسم النظام، أما الصحفي فالأحرى به أن يحرجه بالأسئلة أو يلتزم الصمت لا أن يعينه على ذلك التخريف! والأحرى أن تتشكل خلية أزمة سريعاً تبحث عن مصدر الوباء لا أن تدار خلف المكاتب، أن تتجه التحقيقات لتشمل شركة سيال الفرنسية للمياه! والشركة الوطنية أيضاً أن وأن.. سنصاب بالجنون ونحن نتأمل سدًى فيما يجب أن يحدث، سنفقد صوابنا ونحن نتفرج على هؤلاء الذين يمثلوننا ظلماً وبهتاناً وهم يمارسون غباوتهم على وسائل الإعلام، بينما تختنق أصواتنا هناك فوق جثة الوطن الذي أنّى لنا أن نشفى من أوجاعه.

 
ولكي ننصف هؤلاء فقد قدّموا حججهم التي تدعونا للارتياح النسبي والابتعاد عن التهويل -وربما قصدوا بالنّسبي أن ارتاحوا حتى إشعارٍ آخر!- وذلك لأن:
1- عدد الحالات لم يتعد المائة، لكن وأنا أكتب هذه السطور فقد بلغ 135 حالة مشتبه بها وتوفي شخصان (رحمة الله عليهما)، ثم إذا ما تم التأكد من البقية فهل سيتغير كلامكم!؟ 

2- لأنها حالات معزولة! دعوني أعلمكم أن احصاءت الاتحاد الأوروبي لعام 2015 سجلت 22 حالة كوليرا في ستة دول أي بمعدل 3 الى 4 حالات في كل دولة أغلبها لمهاجرين أو وافدين من بؤر الوباء وهذا ما يسمى بالحالات المعزولة .

3- مياهنا ذات نوع جيدة، لا أحتاج إلى الرد على هذه فكلنا قد تذوق طعمها الآسن ولجأ منذ زمن لشرب المياه المعدنية إلا من لم تسعفه أوضاعه المادية.

ثم يدعونا وزير الصحة للارتياح فالقضاء على الوباء سيكلفهم 3 أيام لا أكثر! وما علينا نحن سوى إتخاذ تدابير وقائية وغسل اليدين جيداً والأصح أن تُغسَل عقولهم من تلك الأساليب والحجج الواهية التي تلجِم صوت المنطق والعقل البشري!

وعودةً للكوليرا فهو إسهال مائي حاد ناتج عن جرثومة معوية vibrio choléra تستقر في الأمعاء وتفرز سمومها التي تتضخم بسرعة(amplification)  فتحدث خللاً في نظام امتصاص الماء ويتم إفرازه بدلاً من ذلك مما يؤدي إلى جفاف الجسم ومن ثم قصور كلوي حاد ودخول الجسم في صدمة في غضون 4 إلى 12 ساعة إذا لم يتم علاجه سريعاً، ومن الممكن أن يموت المريض_ الذي لم يتلق علاجاً _في غضون 18 ساعة.

 

عادة يقاوم الجسم الطبيعي البكتيريا بفضل الحموضة العالية للمعدة، لكنه يعجز أمام التراكيز العالية أي فوق100 مليون بكتيريا في الميليلتر الواحد وهو ما يؤيد نظرية تلوث المياه، كما أن ظهور تلك الحالات في 4 ولايات متجاورة من وسط البلاد وعدد الإصابات يكاد يجزم بأن السبب هو شبكة مياه ملوثة.

صار الكل يعلم حقيقة ما يحدث في جزائرنا إلا من أبى، والكل يرى إلا كوليرا المسؤولين والناعقين وراءهم الذين يتهمون كل من يعري سوآتهم بخيانة الوطن، وبأننا نُشهِر سكاكيننا إثر أي أزمة تعصف به بانتظار سقوطه، لكن اطمئنوا فما يدفعنا لذلك حقا هو ولاؤنا له وإيماننا المطلق بأن وطناً بحجم الجزائر يعزُّ علينا رؤيته على مائدة وحوش تتسابق أظافرهم في نهش خيراته، نتعطش لرؤية جزائر الكرامة التي تقف شامخةً على أكتاف أوفيائها لا مرتعاً لأشقيائها، نريدها وطناً لا سجنا كبيرا قد رموا عباءة الجهل على سمائه وضيّقوا على كل من يشاطرهم الأرض ويخالفهم الرأي، سنظل ندافع عن حقنا فيه وننزع بأيدينا تلك الأشواك التي وضعت في طريقه ونزرع بدل الشوك شوقاً، شوقاً لرؤية ذلك اليوم الذي سيشفى فيه الوطن من أورامكم، سنُصِرُّ على تعافيه إصراراً لا يزيده الزمن إلا تأجّجاً وسطوعاً، اطمئنوا وطننا سيكون بخير دونكم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.