شعار قسم مدونات

لا تنتظروا الحلقة الأخيرة!

blogs مقبرة

كأن مُفردات الحُب تظل مرهونة برحيل الأرواح، فموسيقى المديح، وترانيم المحبة، وأنغام الثناء والاعتزاز لا تُعزف إلا بعدما يحول الموت بيننا وبين من نُحب، بعد أن تُغلق عدسات المشهد، وتُسدل ستارة العرض، فتبدأ حينها شلالات المصارحات والاعترافات بالانهمار، وتفيض كؤوس الشكر لهم. تُبرى الأقلام لكتابة قصائد التكريم، وتُسبك مفردات المودة، وتشرق شموس المحبة، وتنفرج أسارير المشاعر الإيجابية، وتندثر الكلمات السلبية، وكأن انفراج كلمات المحبة من أسرها مقرون بموعد إيقاف ساعة الحلقة الأخيرة على توقيت الرحيل، فما إن يُطالعنا اسمٌ ونكتشف أن يد الموت اختطفته منا، حَتى تمتلئ مُحركات البحث باسم الشَخص الفقيد، وتبدأ مرحلة تقليب صُوره، والنظر في ثنايا صفحته الشخصية، فتتحول بروفايلات الأشخاص بَعد موتهم إلى مراسمَ مُخيفة وتراتيلٌ تَنعي أجساداً ابتعدت عنها، فَتنبعِثَ مِنها رائحةُ الموت الأبدية في ظِلِ صَخبِ مُوسيقى الرحيل وذِكرى الحروف التي رسموها قبل الفراق.

 

ويبدأ شعور لوعة الفقد بداخلنا، وتحسس تلك الأوراق التي سقطت من شجرة الحياة، فتخطر بالبال الأحاديث التي كان يؤنسنا بها، ونبحث في ذاكرتنا عن خيالاته، ونستحضر مواقفه، وتبدأ عملية استشعار الفقد في ذلك المقعد الذي كان يحتوي جسده، نحاول استحضار صوت ضحكاته، والتكهن بما سيقوله في هذا الموقف أو ذاك، فيبقى المقعد مُشاركاً لنا عند كل حدث ومناسبة، عند كل فرح ونائبة، وتبقى غصة فقدانه على كُل مائدة تُوضع، ويبقى اسمه حاضراً بين كلمات دعائنا، ويتبعه عند كل ذكر "رحمه الله" كما لو كان الاسم قد أعيدت صياغته.

 

ما نفع أن نرسل الرسائل بعد أن أغلقت أبواب البريد إليه، وأن تصل طائراتنا إليه بعد أن أغلقت مطاراته، حينها تغدو الكلمات بلا معنى، والصورة من غير ألوان، وحينها لن يسمع منا ما نقول

وما إن نتجرع مرارة رحيله، حتى نستذكر في نفوسنا مواعيد لقاءاتنا المسوفة معه، والكلمات الجميلة التي احتبست بها صدورنا، وبخلنا أن نبوح بها في أثناء حياته، وتبدأ الصور الملتقطة معه تتصدر المشهد على ساحات التواصل، ويبدأ التغني بإنجازاته، والجانب المضيء في سيرته، كما لو كانت تلك الكلمات دفينة، وأخرجناها في صفقة تبادلية بعد أن وضعنا بدلاً منها كفن تلك الروح.

 

أقف لوهلة هُنا، أتساءل مُستغرباً أيجب أن يموت الشخص حتى نظهر حبنا له؟ ألا نتذكر الأرواح إلا عندما نفقدها، أليس من الأجدر أن ندعمها في حياتها والاحتفاء بها في أثناء وجودها؟ ألا نخشى أن يموت الآخرون ويغادروننا، وفي قلوبنا كلمات ما زالت تنبض بحبهم لم تُقل بعد؟ ألا نخشى من تأخير وتأجيل الكلمات الجمَيلة، حتى تأتي لحظات الفقد والفراق، لحظات التراب والغياب؟ ألا نخشى أن تتولد تلك الكلمات بَعد أن يغادروا عنا، فتشرق في نفوسنا بعد أن غرب موعدها في سمائهم؟

 

فما نفع أن نرسل الرسائل بعد أن أغلقت أبواب البريد إليه، وأن تصل طائراتنا إليه بعد أن أغلقت مطاراته، حينها تغدو الكلمات بلا معنى، والصورة من غير ألوان، وحينها لن يسمع منا ما نقول، ولن يرى ما نكتب، فتموت الكلمات بعد أن تولدت، ويكون الميعاد قد فات. فلا تسوفوا الكلام الحلو لتقولوه للأشخاص، قولوا لهم قبل أن يرحلوا، قولوا لهم أنكم تحبونهم، أنكم تعتذرون لهم عن كُل شيء، أن الحياة تستنشق عَطر وجودهم، قولوا كل ذلك قَبل أن تنتهي مدة إقامتهم في هذه الحياة، وتنتهي صلاحية الكلمات والحروف، اذكروا محاسن أحيائكم وقولوا لهم الكلام الحلو الآن، فوردة نضعها بيد حَبيب، خَير من باقة نلقيها على قبره، قولوا لهم الكلام الحلو قبل موتهم، ولا تنتظروا الحلقة الأخيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.