شعار قسم مدونات

سقوط الوطن في مستنقع الأيديولوجيا

blogs الثورة التونسية

منذ استقلال البلاد التونسية سنة 1956، لم يعرف المشهد السياسي والفكري تنوع وحركية كبيرة مثل ما يعيشها الشارع التونسي الأن بفضل رياح التغيير والحريات التي انتزعها التونسيون من براثن الديكتاتورية بشقيها البورقيبي أو خليفته بن علي منذ سبعة سنوات خلت. طيلة 60 سنة من حكم الحبيب بورقيبة والزين العابدين بن على، عرفت تونس لون سياسي واحد متمثل بالحزب الحر الدستوري الجديد والذي تحول اسمه إلى التجمع الدستوري الديمقراطي ولكن لم يكن يحمل من الديمقراطية إلا الاسم حتى قبر نهائيا مع حراك 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011.

لم يعرف المشهد السياسي خلال تلك الحقبة أي صراع سياسي ديمقراطي على السلطة نظرا للقبضة الحديدية التي حكم بها بورقيبة أو بن على، جعلت من الصراعات الفكرية مرتبطة بالأساس ببعض النخب المعارضة في الخفاء والسرية لحزب الدستور. رغم ديكتاتورية النظام إلا أن المعترك السياسي والفكري منذ السبعينيات من القرن الماضي بدأ يعرف بعض التنوع وظهور بعض التيارات الجديدة تتأرجح بين التيارات اليمينية المحافظة المتمثلة في الاتجاه الإسلامي والتيارات التقدمية التحررية ذو مرجعية يسارية شيوعية.

تمخضت الثورة فأنجبت شقين مختلفين من ناحية الانتماء، التوجه الفكري والنظرة لهوية المجتمع في ضرب واضح لمكتسبات الثورة والديمقراطية

اشتد الصراع بين التياران المتناقضين فكريا على هوية ونمط المجتمع التونسي بين تيار إسلامي يرى في الشريعة الإسلامية أفضل دستور لدولة عربية واسلامية وتيار يعتبر نفسه تقدمي ينادي بدولة مدنية قوامها الحريات والمساواة وفصل الدين على الدولة في استنساخ للتجارب الغربية وبالرغم من هذا الاختلاف الجوهري فقد اتفقت تقريبا جميع التيارات السياسية والفكرية على إسقاط دكتاتورية النظام والسعي نحو تأسيس دولة جديدة لعل لقاء 18 أكتوبر أبرز مثال لذلك أين التقى الإسلامي بالعلماني من أجل هدف واحد وهو العمل على زعزعة نظام بن علي.

ازداد الخناق على التونسيين من كبت لحرياتهم وتدهور الأوضاع الاقتصادية وتفشي ظاهرة البطالة من جهة والفساد بالعائلة الحاكمة من جهة ثانية، مما ولدت هذه الأوضاع نفاذ صبر التونسيين وانفجارهم في وجه نظام بن علي خلال أحداث 17 ديسمبر – 14 جانفي رافعين عدة شعارات مطالبة برحيل طاغية أولا ومطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في غياب كلي لجميع الشعارات الإيديولوجية، غايتهم الوحيدة إرساء نظام جديد يحقق مطالب المقهورين والمظلومين.

إثر رحيل بن علي وتحقيق الخطوة الأولى من الثورة كان الاعتقاد أن الشارع التونسي والنخب السياسية ستسعى إلى تفعيل الشعارات المرفوعة إلى حقيقة ملموسة والانطلاق في العمل الجاد نحو تونس جديدة، تونس حرة، ديمقراطية وعادلة، لكن للأسف بمرور الأيام والأسابيع بدأ الخطاب السائدة يتلون بالصراعات الإيديولوجية وأصبح الشارع الموحد يوم 14 جانفي يعيش عدة انقسامات شعبية وفكرية بالأساس.

بعد انتخابات المجلس التأسيسي وفوز حركة النهضة الإسلامية، ظهرت أصوات جديدة تدعو إلى تأسيس تيار تقدمي وتحرري يقف صد منيع في وجه النهضة خوفا من أسلمة المجتمع التونسي وأخونته وكانت المرأة ورقة بيد العلمانيين بتعلة حرص الإسلاميين على نسف مكتسباتها من الحقوق التي حققتها في عهد بورقيبة أو بن علي . من الجانب المقابل خرجت أصوات أخرى تنادي بدولة الخلافة وبدولة دستورها القرآن والشريعة والخروج من جلباب التغريب التي عرفته تونس منذ الاستقلال.

أصبح الهم الوحيد للنظام البحث عن بعض القضايا التي يعتبرها البعض سابقة لأوانها وأطراف أخرى تعتبرها قضايا تمس من عقيدة الشعب التونسي المسلم كمسائل المساواة في الميراث أو المثلية
أصبح الهم الوحيد للنظام البحث عن بعض القضايا التي يعتبرها البعض سابقة لأوانها وأطراف أخرى تعتبرها قضايا تمس من عقيدة الشعب التونسي المسلم كمسائل المساواة في الميراث أو المثلية
 

بالتوازي مع الصراعات الفكرية المتجددة، شهدت تونس إلى هذه اللحظة فشل سياسي وأزمة اقتصادية ومالية خانقة زادت في تأزيم الأوضاع لحد ما أدى بالبعض إلى الكفر بالثورة والربيع العربي. انتظر التونسيون الحلول لجميع مشاكلهم من النظام الحالي بقيادة الباجي قائد السبسي حيث كان الاعتقاد أن الرئيس بمعية الحكومات المتعاقبة هاجسها الأساسي المساواة بين الفقراء والأغنياء، بين الجهات وخاصة بين الدينار والدولار.

 

لكن أصبح الهم الوحيد للنظام البحث عن بعض القضايا التي يعتبرها البعض سابقة لأوانها وأطراف أخرى تعتبرها قضايا تمس من عقيدة الشعب التونسي المسلم كمسائل المساواة في الميراث أو المثلية وتأسيس لجنة كاملة لهذا الغرض مما ولد تقسيم للشارع من جديد وعودة للاستقطاب الثنائي بين شق إسلامي وأخر حداثي مع حيادية كبرى لأغلبية الشعب التونسي الذين يعتبرون أن هذه المعركة الإيديولوجية ليست من اهتماماتهم بقدر سعيهم من أجل إيجاد حلول لمشاكلهم الاقتصادية. تمخضت الثورة فأنجبت شقين مختلفين من ناحية الانتماء، التوجه الفكري والنظرة لهوية المجتمع في ضرب واضح لمكتسبات الثورة والديمقراطية وتوهان بوصلة الشعب بين إسلامية وعلمانية الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.