شعار قسم مدونات

الحَجّ في فَلكَ النّفسِ

blogs - مكة

بَعد غُروبِ شَمس سَبقت فيها الأرضُ حُمرَة السّماءِ بِلونِ الدّم، وفَرت الغَيمات لسماءٍ صافيَةٍ كمرآةٍ تعكِسُ وجهَ الأرض الدامي، نَزلَ السّوادُ، وخيّمَت الظُلمَة عَلى أقوامٍ لا يُجيدونَ مِن اختِراعِ الكَهرباء إلا اسمَها لاستِمرار الحِصار أو لِغربَة الوطَن! ثُمّ في خواتيم اليأس أشرَقَ القَمر كَقميصِ يُوسُف عَلى وجهِ أبيه، بُشرى بأنّ الظُلمَة ستنجَلي وإن تَعاقَبت. أشرَق إشراقاً لَم يَسبِق له بِبهاء طَلّته، واكتمالِ نورِه وبَدره، كَحاجٍ تَطَهرَ مِن كُل دنَس، وسار في طَريق الله.

فَناظَرتُه بالعَين مُستَأنِسَاً، ودَنوتُ مِنه باللسان مُسبّحاً؛ حتّى خُيّل إليّ أنه يُناظِرني بأصغريه، فَعاينتُه بَعدَ طول غِيابٍ بالمِنظارِ فلاحَظتُ احمرار وجهِه خَجِلاً، واستَمرّ إلى اللحظة التي غابَ عَن عينِ الرّصاد؛ إلا عَينَ بَشرٍ اعتَادَت عَلى الحَديثِ إليه حينَ يَغار القَمَر! فَناشَدتُه وسطَ الحمرَة: أي الإشراقِ إليكَ أحَب؟ قالَ: ليلُ رمَضان ففيهِ ليلة القدر، وأيام العَشر من ذي الحجّة إذ فيها خير أيام الله! قُلتُ: أتَعرِف فَضل البيتِ وأنتَ في سَماءِ الله؟

قال: ألم تَقرأ في الدرر المَنثور قولَ جَعفر بن محمّد عَن أبيه أنّه قال: لما قال الله عزّ وجَل للمَلائِكَة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" غَضبَ عليهِم، فعاذوا بالعَرش فَطافوا حولَه سَبعَة أطواف يَسترضونَ ربّهم، فَرضيَ عنهم وقال لَهُم: "ابنوا لي في الأرض بيتاً يتعوذ به كُل من سَخطتُ عَليه مِن خَلقي فيطوف حَوله كما فَعلتم بِعرشي فأغفِر له كما غَفرتُ لَكم" فَبنَوا هذا البيت.

أمّا حَجُره الأسودُ فهوَ ياقوتَةٌ مِن يواقيت الجنّة، أنزلَه الله إلى آدَم عليه السلام بعدَ أن هَبطَ مِن الجَنّة، وتوقّد في قلبه الشّوق إليها، فأخذه آدَمُ عليهِ السّلام، فَضمّه إليه استِئناساً به، فقالَ النّبيّ محمّد صلى الله عليهِ وسلّم: "نزَل الحَجرُ مِن الجنّة وهوَ أشَدُّ بَياضاً مِن اللبن، فَسوّدته خطايا ابنُ آدم". قُلتُ: ألم تأخُذكَ غيرَة من شَوقِ أبينا فَتَحُجّ إليه؟ قال: بَلى، فَعلت يَومَ أن نادَى إبراهيم عليه السلام بأمر ربّه وبلّغ الله عنه، فسمعه مَن بين المشرق والمغرب، فأجابوا مِن أصلابِ الرّجال وأرحام النّساء: لبيكَ اللهُم لبيّك. حينئذٍ لبّى كُل رطبٍ ويابِس!

الحَجّ في فَلكَ النّفسِ لمَن عَجزَ عَن حُضور نُسكِه قائِمٌ بدلالاتِه، فإذا بَدأ الحاجُ حَجّه بِعقدِ النيّة بالحَج، فابدَأ أنتَ حجّك في فَلكِك بنيّةٍ تفَسخِ كُلّ عَقدٍ يُخالِف صِدقَها أو عملٍ يُناقِض نَقاءها

فأخذني مِن الحَجّ هيئَتُه فَسألتُه مُقاطِعاً، أحجَجتَ بَدراً أم مُحاقاً ؟، كَيفَ لبيّت؟، وبأيّ فَلكٍ طفت؟، وبأي وسيلَةٍ بَلغتَ زَمزَمَ الأرض؟ فَأوقفَ ثَرثرتي نَحوَ ماورائيّاتِ الحَج، وقالَ هَلُمّ بِنا نَحُجّ بيتَ الله، كُلٌ مِنّا في فَلكِه، فنُسافِر في خَفاياه، نَتجاوَزُ ظاهِرَه إلى مَقصِده، نَبدأ بِحرفيه ليكونَ الحاءُ بِساطاً يحمِلُ فيه حاجَة العبد، وجيمُه جود المَعبود الذي تختَتم فيه الشّعائِر بالرحمات والمغفرة والعتق.

الحَجّ لَمحَة بَصر البَصيرَة، فيه لمَن حالَ القَدر بين وصولِ مَقامِه سَفرٌ إلى الله لا إلى مَكّه، وطوافٌ حَولَ عَرشِ الله لا بَيتِه، فَمن تَلمّح العِبادات بِعين الفَهم عَلم مُلازَمَة رَسم يَدُل عَلى باطِن، مَقصودُه تَزكيَة النّفسِ وإصلاح القَلب، لأن حقيقَة التعبّد هو صَرفُ القَلبِ إلى الرّب عَزّ وجَل. فالحَجّ في فَلكَ النّفسِ لمَن عَجزَ عَن حُضور نُسكِه قائِمٌ بدلالاتِه، فإذا بَدأ الحاجُ حَجّه بِعقدِ النيّة بالحَج، فابدَأ أنتَ حجّك في فَلكِك بنيّةٍ تفَسخِ كُلّ عَقدٍ يُخالِف صِدقَها أو عملٍ يُناقِض نَقاءها.

ثُمّ إذا تجرّد الحاجُ مِن ثِيابِه، فانزع أنتَ مَعه كُل دَنس في صَدرك، وتَجرّد عَن كُل ما نُهيَ عَنه. حَتّى إذا لبّى ربّه، شارِكه تلبيَة تَليقُ بالمُنادى، ولا تنفك فيها عن تلبيَة النّداء دونَ أن تَسمَع جوابَ التلبيَة مِن ربّك. ثُمّ إذا دَخَل الحاجُ الحَرم، أدخِل أنتَ نفسَك في دائِرة تُحرّم فيها عليها الوقوع في كَلام مُحرّم، ثُمّ إذا طافَ بِجسدِه حولَ بيتِ الله، شارِكه الطّواف بِقلبٍ تطوفُ فيه عَظمَة صاحِب هذا البَيت.

ثُمّ سَمّ الله إذا هَمّ الحاج بِشُرب زَمزَم، لتكونَ لَكَ فيها نيّة الطّهارَة مِن حُب الدُنيا ووساوس الشّيطان من قَلبِك. واشحَن طاقَتكَ معه في السّعي بين الصَفا والمروة كأنّك تَسعى بينَ الخَوفِ والرّجاء. وصاحِبه في الطَريقِ إلى مِنى، صُحبَة تأمَنُ فيها مِن الخَوف، تؤمنكَ فيها مِن رهبة الصّعود إلى عَرفات الله، لتعرِف مِنه مُراد الله مِنك في اطلاعِه عَلى قُلوب أوليائه. ثُمّ شاركه المَبيتَ بِمُزدَلِفَة، مَبيتاً تَسكُن بِها جَوارحك لرحمَة الله، فَتُعينُه برميَ حَصاه لتَرميَ مَعه بِها عُيوبك عَن آخِرها، وليكونَ لكُما في حَلقِ الرأس إسقاطَ الذُنوب والأدناس كلها. واختِم حَجّك في فَلكِك كما يَختِمها الحاج_إن استطعت_ بِذبحِ هديِك، ويَكأنّك تَذبَحُ فيها عَدوّك إبليس، حتى إذا طافَ الحاجُ في وداعِ البيتِ، أودَعتَ الله ما في قلبكِ مِن حَجٍ إليه ابتِغاء مَرضاتِه وقُبوله حَتّى يُهنئك الله بحج بيتِه في أعوام قادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.