شعار قسم مدونات

عن عمرك فيما أفنيته!

blogs الشباب

تقرأُ العنوانَ لتجدَه مألوفًا جدًّا لديك، باعتبارِ ذكريات الماضي مذْ كنتَ طفلًا -بالغًا- تعوَّدتْ أذناكَ سماعَه، فالحديثُ الذي ذُكرَ فيه هذا العنوانُ مشهورٌ جدًّا، وهو حديث مرفوعٌ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنْ يحدَّثُ في هذا الزمن بمفاهيمه المستحدثة، واستقلاب الأفكار فيه، أنْ يُرفَعَ هذا العنوانُ لإطار المجتمع الضيِّق بعاداته وتقاليده، بمفاهيمه التي ارتبطتْ بما أصبحَ عليه العصرُ الحديثُ في عصرِ السرعةِ والمال والتكنولوجيا، وكأنَّ الناسَ يريدون نقلَ كلِّ شيءٍ لذلك العالم الحسابيِّ المفرطِ في استخدام حسابات الخسارة والرِّبح -الدنيويين- وحصرِ معنى الحياة -وربما الممات- فيهما، وبلغة التجارة فإنَّ الوقت هو المال وكذلك العكس، والتكنولوجيا هو ذلك الجسر الرابط أو الوسيط بينهما، إنَّه تمامًا مَنطقةُ الفهمِ بمنطقِ المالِ وأدلجة السلوك ضمنَ نطاق المجتمعات الحديثة التي هي غالبًا جسدٌ دون روح، وسعيٌ بلا هدف، وحركةٌ دون ثبات.

 

قَالَ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرِكَ فِيمَا أَفْنَيْتَ، وَعَنْ شَبَابِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَ، وَعَنْ مَالِكَ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَ، وَفِيمَا أَنْفَقْتَ، وَمَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ"، لا يشكُلُ فهمُ الحديثِ على منْ لديه حتى أبسطُ قواعدِ الفهم في اللغة والدين، ولكنْ يشكُلُ على الكثيرين توظيفُ تلك المعاني، عن قيمتها الحقيقيَّة في واقعٍ مُزيَّف، يحسبه الناظرُ -لا المبصرُ- لُجَّةً فينسى ويسهو وربَّما يضيعُ وهو يحسبُ أنَّه قدْ أحسنَ صنعًا، يحسبُ أنَّه إنْ صامَ وصلَّى وحجَّ لبيتِ الله ونطقَ الشهادتينِ وأعطى زكاة مالِه، أنَّه في مأمن وأنَّ عملَه توقَّف على ذلك، وضمنَ مقعدَه في الجنَّة، وأؤكد هنا أنَّني لا أعلم الغيبَ ولا أوزِّعُ بطاقاتٍ لحجزَ مقاعِدَ في الجنَّةِ أو في النَّار، بل حتى على الأعرافِ؛ فلستُ أهلًا لذلك.

 

من الهزيمةِ أنْ تحيا واقعك بلا حقيقة، أنْ يصبحَ العطبُ مألوفًا، أنْ تعيشَ بين الركامِ وعلى أنقاضِ منْ رحلوا كأنَّك في قصر منيف، أنْ تنظرَ حولكَ وتبصرَ ما تريد، بمزاجيةٍ تعكسُ انتقائيتكَ المتعثِّرة

ولكنِّني فقط أعلنُ مراسِمَ العزاء والدفنِ على أرواحِ الكثيرين، ممَّنْ فقدوا معنى الحياة، ممَّنْ نسوا أو تناسوا ما خُلقوا لأجلِه، بل أمعنوا في محاولات القتلِ لكلِّ منْ أراد أن يحيا بشيءٍ ربَّما قدْ يشفعُ له ما نحنُ فيه من بُؤسٍ ومذلَّة، تصبحُ منبوذًا غيرَ مرغوبٍ به حين قرعَتَ جدرانَ الخزَّان تحاول النجاةَ لا تريد السقوطَ أو الانزلاق في تلكَ الهاويةِ التي ظنوا أنَّهم إليها منقادون لا محالة، فحثُّوا الخطى وتعجَّلوا موتًا رخيصًا واستعجلوا القولَ: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، وصار صيتًا شائعًا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ }، وضعوها في قوالبهم الهشَّة، ولوَّوا ألسنتَهم وما تداركوا أنَّهم دائمًا ما يجتزئون الحقيقة، لا يرغبون حتى بنصفها أو ثُلثها، وجعلوا أصابعهم في آذنهم حذرَها إذ تتمُّ القول: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ }، فكمْ يخشونَ هذا الجزءَ تحديدًا، وخابوا حين ظنُّوا أنَّ وُسعَ النِّفسِ في العملِ والقدرة الجسدية، بل كذلك في إطلاق الفهمِ والإدراك، وشتَّانَ بينَ من ابتغى صعودَ الجبالِ ومنْ أرادَ أنْ يعيشَ دهره بينَ الحفر!

 

هل جرَّبتَ يومًا أنْ تقولَ: أنَّكَ تحيا لأمِّتك، أنَّك تحملُ على عاتقكَ همَّ الرسالة، أنَّكَ قلتَ عنْ نفسكَ ابنَ دعوة؟ هل رفعتَ شعارًا: ربَّ هِمَّةٍ أحيتْ أُمَّة، إنَّما الأقصى عقيدة، هي لله؟ هل أحببتَ وطنك كما لو أنّه الكبدُ في جسدك؟ هل حملتَ قضيَّتكَ كما لو أنَّها القلبُ بين ضلوعك؟ هل قدَّمتَ من عمركَ لكلِّ ذلك، أُسرْتَ، طُوردتَ، جُرحتَ، تخليتَ عن حياةٍ فارهة، فقدتَ أحلامَ الطفولة، تركتَ تخصصًا تحبُّه، تأجَّلُ تخرُّجكَ مراتٍ عدَّة، منعتَ قلبكَ منْ أن يحبَّ، تأخَّر موعدُ زواجك، وكثيرٌ ممَّا يفعله الكثير، أقصدُ هل جرَّبتَ أنْ تكونَ منْ أولئك القليل؟ أتظنُّ لوهلةٍ أنَّهم سيهنئونك، أو حتى يقبِّلون جبينك، أو أنَّهم سيشيرون إليك بالبنان، أو حتى سيسطرون سيرتَكَ في دفاترهم، أو سيحكون قصتك لأولادهم لتكون قدوةً أو حتى مثالًا حيًّا للإقدام؟ إياك وذلك! بل انظر حولَك! نظرات الشفقة تبدو على تلك الوجوه الشاحبة، ونظرات التشفِّي على وجوهٍ أخرى، وعلى طاولات نقاشاتهم للعبرة -القاسية- أنت مثال.

 

انظر ماذا صار إليه، إياك بنيَّ فلا تُشفق! هذا عمره فيما أفناه، ظنَّ بأنَّ الوطن يُطعمُ خبزًا فجاع، ظنَّ بأنَّ الحقَّ سيجلبُ مالًا فافتقر، ويكملُ ذلك "الحكيمُ" مواعظَه المكرورة، ويلعنُ طريقَ الطامحين كلَّما تراءيتَ له، يخشى الاقتراب، يخشى سماعَ الحقيقة، يخشى أنْ يرى صورة التقصير في نفسه حين يراك، ولذلك لا بدَّ من توظيف نظرية المؤامرة، وربما شيطنتك، وربَّما أنْ يعظك في ثياب الواعظين، ويتلو عليك الشواهد، ويسائلكَ أينَ وصلت، هل تزوجت هل أنجبت؟ هل تملك بيتًا أو وظيفة؟ أيعقلُ أنَّك لا تزال تسعى يا بنيَّ! دعكَ ممَّا أنتَ مشغولٌ فيه، فالكلُّ قد باعَ القضيَّة، وماذا باستطاعتنا أنْ نفعلَ أصلًا! والله غفورٌ رحيم، لا عليك فإنَّه يعلمك سرَّك ونجواك، أنا أريدُ مصلحتَك، وينتفخُ ليتلو عليكَ بيانَه المكذوب والذي لم يبدأه ببسلمة أو استعاذة، يحكي بطولاتٍ وصولات، وأنَّه في النهاية لم يلقَ شيئًا وبجرَّة لسان: كلَّهم كاذبون، اهتمَّ بنفسك فقط! ولكنَّ يقينًا لمْ يتزحزح، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ }، والكفرُ ضروبٌ، ليس خروجًا من ملَّة بل كفرٌ بسبيل الحقِّ وكفرٌ بالقضية!

 

عن عمرك فيما أفنيته اسائل نفسك لا تشغل بالكَ بي، فأنا أعلم ولا تقل لي كيف تعلم، فتِّش وستلقى، لا تنظر حولك بل أبصِر!
عن عمرك فيما أفنيته اسائل نفسك لا تشغل بالكَ بي، فأنا أعلم ولا تقل لي كيف تعلم، فتِّش وستلقى، لا تنظر حولك بل أبصِر!
 

كيْ لا تُهزمَ عليكَ أنْ تقنعَ نفسكَ بالهزيمة، فإنْ هزمتَ فهذا حالُكَ أصلًا، وإنْ ربحَ غيرُك فسهلٌ أنْ تكونَ مع الرابحين، ومن الهزيمةِ أنْ تحيا واقعك بلا حقيقة، أنْ يصبحَ العطبُ مألوفًا، أنْ تعيشَ بين الركامِ وعلى أنقاضِ منْ رحلوا كأنَّك في قصر منيف، أنْ تنظرَ حولكَ وتبصرَ ما تريد، بمزاجيةٍ تعكسُ انتقائيتكَ المتعثِّرة، سئمتَ تفاصيل واقعك المحيط، والآن تسعى لتبني قصورًا معلَّقة في الهواء، تواصلُ الكذبَ على نفسِك، وترمي كلَّ من أظهرَ الحقيقة بالخروج عن المألوف، بضروب الجنون، تتعجَّبُ من أمٍّ شاركتْ زوجَها وأولادها والقضيةَ جوارَها، كيف حنَتْ وربَّتْ وأيقنتْ، يؤلمكَ ذلك المنظر، يستفزُّ مشاعركَ، فتخفي ذلك كيْ تطلقَ لسخطكَ العنان، كي تشوِّه المعاني، كي تزرعَ الشوكَ دونَ الورد، تريدُ أنْ تنسى كلَّ تلكَ الوجوه التي تطاردُ تقاعسكَ وتخاذلك، باتتْ أشباحًا تخيفك، ولكنَّكَ حتى في هذه أخطأتَ فقد كانتْ وما زالتْ حقيقةً تفرضُ نفسها عليك شئتَ أمْ أبيت، أمَا زلتَ تكذبُ على نفسكَ أيَّها المسكينُ فيما أفنيتَ من عمرك، وظيفةٌ وسيارةٌ وبيتٌ واسعٌ فارِه، وعائلةٌ وألقابٌ وأموال ومناصب ورتب، وسخيٌّ أنت، تعطي من ذلك معشارًا لتردَّ العينَ ولكي تريحَ ضميرَ الدين، سمِّها صدقةً وزكاةً، وضعْ رأسك على وسادتك القطنية، ونمْ ما فازَ إلا النُوَّمُ.

 

أمَّا عنِّي فاعلمْ جيِّدًا ولا تجعلْ أصابعك في أذنيك من الصواعِق حذرَ الحقيقة، عمري أدري كيفَ أصرِّفه، لستُ عليكَ حسيبًا أبدًا، وليستْ محاكمةً أدينكَ فيها، ولكنِّني أخبركَ لتفهم كي تعقل أو تدرك: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، لستُ أقدِّسُ فهمي، ولكنِّني أحيا لما أدركُ يقينًا، لا يساورني شكٌّ بذلك، فمنذ متى كانتْ حياة الطامحينَ مفروشةً بالورد، نسائمُها منْ عبَقِ الياسمين؟! منذُ متى كانتْ حياةُ الحالمين فانوسًا سحريًّا يكفي فيه أنْ تتمنَّى لتتحقق أحلامك وتزهوَ بكلِّ ما يطيب لنفسك؟! لقدْ أدركتُ الكثير ممَّا أريد، لا تتعجَّبْ من ذلك، فأنَّا أقلِّب صفحاتِ مصحفي كلَّ يوم لأبحثَ عمَّا أريد، أجدُه مكتوبًا نصًّا مطبوعًّا، أتدري حجم الفرحة التي تغمرني حين أفعل ذلك؟! لو أدركتَ فعِلَ اليقينِ بالنفسِ لعرفتَ أينَ وصلتُ، ولأدركتَ كذلك مدى عجزك، لا أقول أنِّني أفضل منك، ولكنَّني أجزمُ أنَّني أجرأ منكَ، فأنا قدْ قرعتُ جدرانَ الخزانِ بينما كنتَ أنتَ مستمعًا لدولاب الخزان يدور وتجلسُ كأنَّكَ حجرٌ أبكم!

 

عن عمرك فيما أفنيته أسائلك أنا باسم صوت كلِّ المتعبين لأجلِ القضية، لأجل الدعوة والرسالة، لأجل الحق والحقيقة، لأجلِ أن تحيا الأوطان، لأجل أن تبقى أنت صاحب هوية، ولستُ أجزمُ أنَّني منهم، ولكنَّني أجزمُ أنَّني صوتٌ ناقل، أنَّ قلمي شهيد شاهد، فصوتُ أولئك المتعبين لن يصمت أبدًا، ورسائل القمعِ والتهديد لن تجدي، تلك سنةٌ ثابتة، لن تجدَ لها تبديلًا ولا تحويلًا، عن عمرك فيما أفنيته أعاتبك، حين لم تقفْ عندَ حدِّ عجزك لتجلدني بسياط المقهورِ البائس، لمْ تعلمْ جلدي وصبري ففجعتَ كيف يصمدُ هؤلاء كيف يحيون؟ أنا أجيبك وأقول: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، عن عمرك فيما أفنيته سائل نفسك لا تشغل بالكَ بي، فأنا أعلم ولا تقل لي كيف تعلم، فتِّش وستلقى، لا تنظر حولك بل أبصِر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.