شعار قسم مدونات

وأذن في الناسِ بالحَجِّ

blogs - البيت الحرام

هو أمرٌ رباني ونداءٌ إلهي أُمر به خليل الله إبراهيم – عليه السلام – وجاء القرآن الكريم بأحكامه وأرسى النبي مُحمد – صلّ الله عليه وسلم – قواعده، فأصبحت أعظم شعيرة فُرضت على المسلمين، إنه الحج! فالحج بقدر ما أنه شعيرة إسلامية ودينية، فهو مشهدٌ عظيم يدل على عظمة خالقنا أمام جميع عباده، فيتجلى لهم نور الحق الساطع من الكعبة المُشرفة في تلك الأرض المباركة، مكة المكرمة.

حيث يجتمعُ المسلمون مِن كل حدبٍ ينسلون لأمر ربهم خاضعون، ومن عظمته خاشعون، آتين من كل فجٍ عميق إرضاءً وتلبيةً لنداء رب البيت العتيق، حيث أمر فقال "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" فدعاهم لزيارته والصلاة في بيته، ليكونوا كملائكته الذين يطوفون بالبيت المعمور. كثيراً ما أتأملُ وأنا انظرُ إلى جموع المسلمين وهم يطّوفون بالبيت العتيق مُعلنين عن وصولهم (لبيك اللهم لبيك) مستسلمين لهُ بالوحدانية والانقياد (لا شريك لك لبيك) شاكرين لفضله وكرمه أنه خصّهم بهذا الشرف (لك الحمد والنعمة لك، لا شريك لك لبيك) يرددون ذلك بصوتٍ واحد أمام العالم أجمع في مشهدٍ مُهيب تخشعُ له القلوب وتقشعرُ منه الأبدان. فلا تُفرقهم لغة، ولا دولة، ولا جنسية، ولا عقيدة، ولا قبيلة. لا فرق بين ذلك الشيخُ الكبير الذي بلغ من الكبر عتياً آتياً من شمال الهندِ، ولا بين ذلك الرجل الفلبيني الآتي من أحضان المحيط الهادي، ولا بين تلك العجوز التي أتت من الصومال، لا يُفرقهم كل هذا ولا يُلقون له بالاً.

الحج يُعلمنا، أنه ومن أجل الوصول إلى هدف تحتاج أن تبذل النفس من المشقة والعناء الشيء الكثير ثم تكون الجائزة والهدية، وهذا أشبه برحلة حياتنا

بل وضعوه تحت أقدامهم منذ أن أعلنوا إحرامهم من مِيقاتهم، مُتزينين بذلك اللباس الأبيض الذي يُذكرهم بيوم ولادتهم وبيوم وفاتهم. مُستشعرين بيومِ الحشرِ الأكبر ويوم الجمع الأعظم، يوم يَحشرُ ربنا جميع خلقه في مشهدٍ مُشابه لهذا اليوم تماماً، وها هو اليوم يجمعهم لِيشهدُوا منافع لهُم ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلومات، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطّفوا بالبيت العتيق. أقف فأقول: يا الله ما أكرمك وما أحلمك، دعوتهم من شتى بقاع الأرض ليس إذلالاً لهم ولا استنقاصاً منهم، كعادة الملوك، بل جمعتهم لتنفعهم ولتغفر لهم ولتتوب عليهم، ثم تردهم كيوم ولدتهم أمهاتهم. أبعد ذلك الفضلِ فضل!؟  فلله أكبرُ ما أقبلت الحجيج إلى بيت الله العتيق، الله أكبر ما وقفوا في عرفات داعين رب الأرض والسموات فسالت الدمعات واستجاب اللهُ لهم الدعوات. ثم يُباهي الله أمام ملائكته بعباده فيقول: (انظروا يا ملائكتي إلى عبادي) أيّ الحُجاج (أتوني شُعثاً غُبراً) الشعثُ على رؤوسهم، والغُبار على أبدانهم، اتسخت ملابسهم، طالت حناجرهم. ثم يقول بكل عظمة وعزة وكبرياء أمام ملائكة الأرض والسموات (اشهدكم يا ملائكتي أنّي قد غفرتُ لهم). يـــا الله ما أعظمك، يا الله ما قدرناك حق قدرك ولا عرفناك حق معرفتك، وبذلك يكون أعطاهم جائزتهم وطهرهم من ذنوبهم ونقّاهم من سيئاتهم، راداً بهم كيوم ولدتهم أمهاتهم بإذنه وكرمه، إنه حقاً يوم الحج الأكبر يوم العيد الأكبر.

و الآن سوف اتطرق لمشهدِ آخر، مبنياً على بعض ما رأيته في فهم بعضنا للحج، فبعض الحجيج (أكرمهم الله) عندما يعودون إلى بلادهم وديارهم يتصرفون بتصرفاتِ غريبة وعجيبة تجعلهم وكأنهم قد أتوا من رحلة أو نُزهة أو إجازة، لذلك يجب أن تعلموا أيها الحاج وأيتها الحاجة، أن الله تعالى لم يجعل الحج فريضة ولا منسكاً ولا شعيرة فقط للتطهير من الذنوب والسيئات فحسب. بل ما جعل كل ذلك العناء والمشقة وما أتى بكم من كل فجٍ عميق إلا لحكمةٍ بالغة، فالحجُ قبل أن يكون مناسك وأركان، كان تهذيباً للنفوس وتطهيراً للقلوب وتعليماً للعقول. الحج يُعلمنا، أنه ومن أجل الوصول إلى هدف تحتاج أن تبذل النفس من المشقة والعناء الشيء الكثير ثم تكون الجائزة والهدية، وهذا أشبه برحلة حياتنا التي نعمل فيها جميعاً للدار الآخر لننال بذلك جنة الخلد، فتنبه عزيزي (فإن سِلعة الله غالية). بالإضافة إلى كونه درساً واضحاً صريحاً،  بأنه ليس هناك أي فرق بين أي أحدِ من خلق الله وعباده، عرباً كانوا أم عجماً، رجالاً أو نساءً، فكلهم سواسية يعبدون ربِ واحد ويصلون لرب واحد ويطوفون لرب واحد ويعبدوا رب بيت واحد لا شريك له.

لكن يُلاحظ الكثير منا أن بعض الحجاج – هداهم الله – يفهمون الحج فهماً خاطئاً، فما أن يُكمل الحج مناسكه ويعود إلى منزله، يبدأ من جديد بجمع الذنوب وتعبئة صفحات السيئات، فاهماً وواضعاً أمام عينه أن الله تعالى قد غفر له – بإذن الله – ما تقدم من ذنبه وأنه نُقيّ من كل الخطايا، والآن عليه أن يأخذ راحته ويعيش حياته ويجول ويعبث ويرفث في ما تبقى له من عُمره كما يشاء وكما يحلو له. هذه هي المصيبة العظمى والرزية الكبرى! فما لهذا جُعل الحج، وما لهذا أتى الله بهم، وما لهذا دعاهم وما لهذا كان نداء إبراهيم – عليه السلام. فتنبه أيها الحاج الكريم وأيتها الحاجة الفاضلة، وأعلموا أن الله فضلكم بمنزلة عظيمة، أن رزقكم حِج بيته وشرفكم بزيارته في أطهر بقاعه وفي أحب الأماكن إليه في بلده الحرام. فلا تُضيعوا ذلك ولا تستهينوا به، وتنبهوا أن الله لم يفرض الحج على الصغير ولا على الشباب. بل جعله لمن بلغ من العمر قدرهُ، فيكون قد اكتمل عقله وبلغ أشده وأوتي رُشده، فهو أشبه بتكليف الله للأنبياء برسالتهم ودعوتهم كذلك كان الحج فهو تكريم وتشريف من الله لعباده المؤمنين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.