شعار قسم مدونات

سر الرحيل.. أحمد شقير

blogs- احمد شقير

كنتُ قديماً إذا أكل الشوق قلبي، أو حرقتني آلامي على أمتنا، هرعت إلى أخبار الصحابة وتابعيهم من المجاهدين الثابتين على ثغر هذا الدين، لأثبّت بها قلبي قليلًا، ثم ما إن أرتشف من سيرهم العطرة، أشعر بأني أزداد تحرّقاً وبحثًا في عالمي المعاصر عن أحدٍ ينصر هذا الدين. ثم إذا مسحت عبراتي وعدتُ إلى عهد قديم، يمرّ بخاطري طيف شاب انتشرت سيرته العطرة منذ عهدٍ قريب، كان ممّن قيل عنه: "كان فتىً نديَّ العين كثير الدمع، يهزّه الوعظ الحي فيبكي إن وعظته ويبكي إن وعظك! وربما جاهد عبرات عينيه، فإذا غلبته استسلم لها ولم يقاومها. ولا ينتحبُ أمام الناس إلا أن تسيل دموعه تحدُّرًاً على خدّيه الورديّين، فإذا خلى بنفسه أو بأصفى أصفيائه، سمعت له نشيجًا وانتحابًا يهزّ جسده الفتيّ هزًّا. فإذا ما أسرعتَ تعانقه لتسكن من روعه قال لك: إنما أخشى أن أكون عند الله منافقًا فيهتز الجسدان من أثر الرجفة والدمع، فصار لديّ كتمثال للأمل المشهود يعانق روحي كلما خنقني حالنا.

أتفكر كثيرًا في حاله وهو رجل عرفه الله فجعل قلوب أهل الأرض عطشى للقائه، رجل عاش يبحث عن السر، سر الراحلين. ما إن تقرأ سيرته حتى تجد نفسك باكيًا شاجبًا تارة الظلم وتارة العجز وتارات كثيرة تلعن كل تقصير بني داخلك، ومن ثم تجده وهو يضمد جرحك بوجود أمل أن تسير يومًا على دربه، أو نهلك على طريق الإخلاص. بدأت الحكاية من كتاب سمعت اسمه بالصدفة، في فترة كانت الأصعب بالنسبة لي، توارد اسمه كثيرًا حولي وكأنه شيء غريب اقتحم عالمي باسم "خواطر فتى لم يرحل" تبادر لذهني سؤال: كيف له كتابة خواطره دون الرحيل، فكان باقيًا معنا بأثره وحسن سيرته، لم يرحل المخلص الصادق الذي تتحرّق قلوبنا شوقًا لشيء ممّا عنده. فارس هذا الزمان الذي عاش فيه غريبًا غربة الثابت الصادق على هدي نبيه، وهو الذي لم يثنِه تعب أو ضنَك أو ظلم عن الذَود والدفاع عن الدين ورفعته، في وقت سيطرت الشهوات على قلوب الكثيرين من حوله، الغريب الذي عاش غربة الدين والوطن معًا، في وطن نكّل أشد تنكيل بكل صادق فيه، هو الفارس الغريب صادق السر والأثر، أحمد شقير.

قالها الفارس –أحمد شقير- يومًا: "قبل أن تطلب الإخلاص، اسأله الاخلاص في طلب الاخلاص"! فكم من قلب تاه وخسر هذا السرّ

حين النظر إلى سيرته تشعر لوهلة وكأنه طيف من الجنة جاء ليعلمنا معنى الإخلاص والعمل، ثم ليرحل ويترك قلوبنا تتحرق غبطة وحبًّا له، وغربة في كون ليس فيه مثل أحمد بعد موته. لم أعتد يومًا أن أقدّس شخصًا، فكل شخص ناقص مهما اكتمل، مخطئ مهما استقام، ولكن لهذا الشابّ في قلب كل شخص يبحث عن السر في حكايته ويحاول أن يحافظ عليه، شيءٌ يجعله يدعو له صمتًا وبوحًا لشدة أثره في قلب كل من يسمع عنه. ما إن تتصفح الكتاب حتى تجد قلبك ينزف دمعًا وللدمع معانٍ كثيرة، منها الشوق ومنها الحزن ومنها القهر، ولكن الأكثر صدقا هو دمع الغبطة والتمني أن يجعل الله داخل كل شخص منا فارسًا. تنظر لقصته والدمع يداري القلب قبل العين متسائلًا: ماذا كان بينه وبين ربه ليجعله ذائع الصيت حسن السيرة؟ ونحسبه عند الله ولا نزكيه على أحد، من مواقفه التي ذكرت وكراماته التي صرح بها أهله وأصدقاءه عند موته حسن السريرة أيضا. تقرأ وأنت مذهول فيتبادر إلى ذهنك سؤال: كم فارسٍ في هذا الزمان ماتت حكايته قبل أن تُروى وأُخفيت قصته ولم تخلد ما بين سجن وقتل وغدر، كم من فارس كان ضحية لصمت أطبق أفواهنا فما عدنا قادرين على الصراخ حتى.

وكأن تخليد حكاية الفارس كانت لتكون حجة علينا أمام الله يوم أن يسألنا عن الحال الذي بتنا عليه من ضعف وهوان وتقصير، وكأنه جاء ليعلمنا شيئًا، أن لكل شخص فينا قدرة على إحداث الأثر، ثم إذا ما أدى رسالته انتقل إلى العدل الأخروي ليلقى جزاء ما عانى في سبيل إيصال تلك الرسالة. فوارس كثر كانوا أو رحلوا وتبقى المعادلة واحدة، هي معادلة الاخلاص! قالها الفارس يومًا: "قبل أن تطلب الإخلاص، اسأله الاخلاص في طلب الاخلاص"! فكم من قلب تاه وخسر هذا السرّ، وكم من نفس جاهدت لتبني هذا السر بينها وبين ربها، وكم أنهكتنا أرواحنا بحثا عن هذا السر. للفارس مواقف عظيمة، ومن مواقفه أنه كان يمشي في الشارع فرأى شاباً في الجهة المقابلة يعاكس فتاة، فحزن على اقتراف الشاب ذنباً كهذا، فرجع إلى الشاب وألقى عليه السلام، فرد السلام، فلما سألوه قال: إن الحسنات يذهبن السيئات!

في كلّ موقف ترى معنى أن يرزقك الله أخًا يكون لك كتفًا لا يميل، معنى أن يوثّق الله رابطتهما، أن يصطفيك الله لتعمل للناس في سبيله، أن تكون سبباً لأن تمنع أحدهم من أن تعصيه أو أن تأخذ بيد أخيك إلى الجنة، ستجد ذلك جليًّا في كل موقف للفارس. فإنّ من أحبه الله جعل له القبول في قلوب عباده. يقول رسولنا الكريم: "إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فكان قوله وعمله وفهمه ذاك الأثر الذي لا ينقطع. نحب الفارس ونتقرب إلى الله بحبه كما كان بتقرب الى الله بحلمه، فلكل منا طريقته الخاصة بالعبادة، المهم أن ترتوي قلوبنا بسرّ الاتصال وهو الإخلاص. اشتياقنا للفارس اشتياق لفطرة الإخلاص داخلنا، فطرة البذل والعمل لأجله، اشتياقنا رغبة بأن يعمّ عالمنا فوارس كثر وأن يكون كل واحد فينا الفارسَ المنتظر، لأن داخل كلّ واحد منا فارس لو رويناه حبًّا وصدقًا وإخلاصًا وعملًا، لكان حجر الأساس في سبيل نهضتنا وكان الشوق له شوق العمل للمضي في طريقه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.