شعار قسم مدونات

إيَّاك أن تؤجِّر عقلَك!

blogs تفكير

أسعد الناس في هذه الحياة صاحب العقل المتزن، ومن كانت قراراته نابعة من شخصه وفكره، الذي لم يُسْلِم عقله لأحد أيّا كان وتحت أي مسمى، يُناقش ويختلف، فإذا علم أنه أخطا تراجع عن الخطأ، وإن رأى أنه أصاب ثبت على الحق. كَيِّس فَطِن، لم يحجر عقله على شيء، لديه المساحة الواسعة لسماع الرأي الآخر مهما بلغ، ومناقشته بأدب وتجرد، يُمَحِّص القول، ويتفحص الرأي، ولا يسمح لأحد أن يستأثر عنه بالتفكير ليعزله عن العالم، لأنه أيقن بالمقولة التي تقول: "عَقلُك لك لا لغيرك".

الَّلافت للنظر، والذي بدأ يطفو على السطح، وينتشر انتشار النار في الهشيم، أن تجدَ من أجَّرَ عقلَهُ لغيره، فكان إِمَّعة، يقول لكل أحدٍ: أنا معك، ولا يثبت على شيء لضعف رأيه، بخلاف العاقل الحازم صاحب الرأي السديد الذي إن رأى رأيا يشينه ويقلل من شأنه قال لصاحبه: ولست بإمعة في الرجال أسائل هذا وذا: ما الخبر؟

المؤجرون لعقولهم، في زماننا هذا كُثُر، حتى أصبحنا نشاهد كل يوم عجبا، مشاهد دخيلة على مجتمعاتنا الإسلامية، وفدت إليها من الغرب الكافر والشرق الفاجر، وكان من نتائجها الوخيمة وثمراتها المرة عليهم، هذا التيه الذي يتخبط فيه شبابهم من الجنسين، وكانت بضاعتنا التي ابتعناها منهم أن تلبّس أبناؤنا بثقافتهم حتى بدوا غرباء عن جسم الأمة الإسلامية، دخلاء على مجتمعنا الأصيل المتميز.

كاتب مرموق اتخذ من كتابته وسيلة للسب والشتم، والتعدي على ثوابت الدين، همّه أن يرضي فكره، فيطعن ويلمز، وأمره ليس بمستنكر ولا مستغرب، لكن العجب حين تجد مغمورا يجعله قدوة له

وكان من نتاج هذه البضاعة أن ظهر عندنا فئة من الرجال والنساء، والفتيان والفتيات، أجّروا عقولهم لغيرهم، فتأثروا بالموضات والحركات، وتقليد الرقصات والضحكات، وأقل ما يقال عنهم أنهم قد ابتعدوا عن تعاليم دينهم، دون تحكيم لعقولهم، ولم يتعبوا أنفسهم لمعرفة معناها، ودلالاتها، ومرجعيتها، ولو فعلوا ذلك لاكتشفوا أنها تدخل في نطاق المحرم، أو المكروه، أو المجافي للذوق والمروءة.

وفئة أخرى تعلقوا بمدعي العلم والمشيخة، فنصروا أقوالهم، فأفتوا بها فضلوا واضلوا مع أن من اتبعوهم ليسوا خيرا منهم عقلا ولا علما، ولكنها ثقافة التقليد، وتسليم العقل للغير فأصبحوا ألعوبة بيد غيرهم، يفكر لهم، ويقرر عنهم، لأن من اتبعوه استطاع أن يوهمهم أنّ قوله هو الحق الذي يجب اتباعه. وفي السطور القليلة التالية أمثلة لما ذكرت، وهو بلا شك تقليد أعمى، وتغليف للعقل عن التفكير، دون وازع أو رادع.

فتاةٌ تتعلق بعارضةٍ (فاشنيستا) لمجرد أنها قامت بالإعلان ووضعت عليها اسمها، أو خصم لمتابعيها، تبذل الفتاةُ جهدها في شراء ما تُعلنُه هذه العارضة، حتى وإن كان ما تعرضه بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحة، فالعارضة تختار لها، وتشتري لها، بل وتتذوق عنها! فهي دميةٌ بِيَدِ غيرها. وأخرى، أو قل وآخر، يتراقص في الشارع لأنه غيره فعل هذه الفعلة، فأراد أن يكون مثله في الشهرة، ولأنه قد أجّر عقله لغيره، ليفكر عنه، ويبثه ثقافة هوجاء، قلّده دون مراعاة لعادات أو أعراف.

وكاتب مرموق اتخذ من كتابته وسيلة للسب والشتم، والتعدي على ثوابت الدين، همّه أن يرضي فكره، فيطعن ويلمز، وأمره ليس بمستنكر ولا مستغرب، لكن العجب حين تجد مغمورا يجعله قدوة له، يحاول أن يقلده فيما يكتب، فيسلك مسلكه، ألا ترون معي أنه قد سلم عقله وأجّره لغيره. ومثلهم المتدين الذي نشأ مع حزب أو جماعة وتغذّى من أفكارِها ورضع نهجها، ونشأ على عصمةُ قولِها، يجعل أقوال جماعته وكلامهم كلاما مقدساً لا يبدلُ ولا يحرِّف ولا يؤول، الحق ما قالت الجماعة ولو خالفت الشرعَ والعقلَ، شعاره في ذلك: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام.

وآخر يدخل بين أناس أبرياء في سوقهم أو مسجدهم فيفجر بهم دون مراعاة أو فهم لنصوص الشرع في حرمة الدم وعصمة النفس، فيترك أجسادا مسجاة يسيل الدم منها، معتقدا أن فعلته هذه هي الطريق الوحيد للجنة، وأن القتلى كلهم في النار. لقد أسلم عقله لمن أفتاه، ولم يكلف نفسه عناء التفكير المتجرد للحق، أو سؤال العلماء الربانيين قبل أن يُقْدِم أو يفعل.

الله سبحانه وتعالى منح بني البشر صفات كثيرة، فيها من السمو والكمال ما يرفعه إلى منزلة عالية إذا استقام عليها وأخذ بعزائمها، فقد أعطاه منحة عظيمة، ألا وهي منحة العقل
الله سبحانه وتعالى منح بني البشر صفات كثيرة، فيها من السمو والكمال ما يرفعه إلى منزلة عالية إذا استقام عليها وأخذ بعزائمها، فقد أعطاه منحة عظيمة، ألا وهي منحة العقل
 

وآخر اتخذ من وسائل التواصل وسيلة  للهجوم غير المبرر على فئة، أو طائفة، أو دولة، لأن آمره قد طلب منه ذلم، فاصبح دمية بيده، وأجر عقله له فأصبح يتحكم به، وكانت النتيجة أنه يأتمر بأمره، فلا يفعل إلا ما يطلب منه، حتى وإن كان يخالف ما يعتقده في قرارة نفسه. وأسوأ منهم مَن أجّر عقله لمن دفع له مقابلا من المال ليقول ويتكلم، ويهمز ويلمز، ويسب ويشتم، فيتخلى عن جميع مبادئه من أجل حفنة من المال يقبضها.

وينتابك العجب عندما تجد أن هؤلاء المؤجرين لعقولهم من حملة الشهادات، أيْ أنهم مُتَعلّمون! فتسال نفسك: ما العلم الذي تلقوه أو المناهج التي درسوها؟ وكيف وصلوا إلى هذا المستوى من اللاتفكير؟ وتقفُ مذهولاً مما حدث! كيف؟ لماذا؟ تضع كل علامات الاستفهام والتعجب لتتصارع أفكارُك بعدها إلى السبب الذي يجعله يقوم بهذا الفعل وماهي دوافعه وأسبابه؟

الله سبحانه وتعالى منح بني البشر صفات كثيرة، فيها من السمو والكمال ما يرفعه إلى منزلة عالية إذا استقام عليها وأخذ بعزائمها. فقد أعطاه منحة عظيمة، ألا وهي منحة العقل، الذي به يعرف الهدى، وأعطاه خاصية التعبير الذي به يبين، وميزه بفضيلة التعليم حتى يغاير البهيم، فهو بطبيعته لديه الاستعداد لسلوك طريق الخير أو طريق الشر كما أخبرنا سبحانه بقوله: "وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْن". يقول أحد العارفين: على قدر بصيرة العقل يرى الإنسان الأشياء، فمن سلم عقله من الهوى يراها على حقيقتها، والنفس الكدرة المتبعة لهواها ترى الأشياء على طبعها. وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.