شعار قسم مدونات

إلى مَي.. أنتِ لستِ جبانَة

blogs - مي سكاف

"ما عادَ بإمكانِها مواصلةُ التمثيل، فقد كانت المأساةُ أكبرَ من كل أدوارها، لذا في كل دورٍ أدّته كانت تستعدُ للرحيل. لم يقتل مي سكاف توقفُ قلبِها، بل استيقاظُ الضمير"

– أحلام مستغانمي

  

في واحدٍ من أجملِ مشاهد مسلسل الفوارس يبكي الأبجرُ قومَه صامتا، فيلومه حنظلة والأيهم على صمتِهِ الذي يقتلهم فيقول: "الصمتُ لا يقتُل، الصمتُ يُخبِرُ عن القتل"، فسأل الأيهَمُ مُستفسِرا: "مَن الذي قُتِلَ ومَن بقيَ حيا؟"، فأجابه الأبجر: "قُتلَ أقربُ الناسِ إلينا وفرَّ أبعدهُم عنا، غطّى عَينَيهِ وأذُنيه وفرْ، العدو لا يقتلُ الجبناء .. العدو يحتقرهم ويدوسهم بنعاله دون أن يدعهم يموتون فكأنما موتهم يفقدهُ المتعة..، هناك فرقٌ بيننا وبين أعدائنا يا حنظلة، نحن نحاربُ لنَرُد الظلمَ عنا وهم يحاربون ليؤكدوه، ومع هذا لا يريدون أن يفهموا، مع هذا يظنوني أبلها، أبَعدَ كل هذا الذي لاقيناه منهم يظنوني أبلها !، لأنني قلتُ لهم أفيقوا ؟"، فقالت رباب: "حاشاك يا سيدَ القوم".

 

تحكي مَي عن أيامِ الثورة الأولى عندما خرجت للاحتجاج فتعرَّضَت للاعتقال والتحقيق، في المرة الثانية بعد تكبيلها وتكميمِ عينيها وإهانتها وتركِها وحيدة لتواجه كوابيس التفكير فيما سيحدثُ لاحقا، أتاها ككلِّ مرة الضابط المهذّب -يظنها بلهاء-ليقول لها "من الذي غرٍّرَ بِك يا ابنتي ؟" ، كانوا يظنونها بلهاء لأنها تركت نجوميتها ورغد العيش والبُسُط الحمراء لتتحداهم، لتقولَ لهم أفيقوا ..

 

لاحقا أصبحت مَي عُرضة لاعتقال آخر، بل على رادار وِحدَةِ الموت ، قالت عن ذلك الموقف الصعب: "لو حدثَ ذلك الاعتقال لكان مختلفا عن سابقيه، ربما كان الأذى سيكون مختلفا وشديدا"، لم تكن تريدُ تركَ دمشق بل ظلت لسنوات ثلاث ترفض الرحيل، حتى عندما قال لها ذلك المحقّقُ مرة: " الرئيس يأمرك بمغادرة سوريا"، كانت تراه هروبا، لكنها عندما ضاقت عليها السبُل خضعَت أخيرا لخيار المغادرة تلبيةً لرغبة أمها وزملائها ولكنها تألَّمَت بشدة، كانت دموعها تنهمرُ بغزارة وهي ترمق قاسيون لآخر مرة وتقول "أنا جبانَة لأنني اخترتُ الرحيل" ..

 

لكننا نقول لمَي كما قالت ربابُ للأبجَر "حاشاكِ يا أيقونَةَ الثورة"

    

undefined

   

الأشد قسوةً في الأحزانِ الكبرى أنها مهما تباعدَت يُحيي آخرُها أوَّلَها، كأنه قد حدثَ البارحة، ثم يكونُ التوجّعُ عظيما شامِلا يجمعُ الأوزارَ كلها من أرصفةِ محاولاتِ النسيانِ أو تعزيةِ الذات ثم يُلقيها على كاهلِ النفس جُملةً واحِدة فتبكي كلَّ شيء في صورة مُصابِها الأخير، وتعيدُ نعيَ ضحاياها جميعا وهي تُشيِّعُ إليهِم سببا آخرَ من أسبابِ البقاءِ القليلَة، بعدَ أن مَلَّ من البقاءِ طريدًا يكتفي بالنجاة بدلَ أن يحظى بحياة، فلما لم يظفر بحق الحياة بمعناها الكامِل، أنصَفَه الموت فكانَ موتُهُ كامِلا ثقيلا عميقَ الأثر.

 

نعم يفعلُ بنا رحيلُ مَي كلَّ ذلك، كما تذكَّرَ يعقوبُ عليه السلام فجيعتَهُ الأولى في يوسف عندما أُخبِرَ عن غيابِ بنيامين فقالَ (يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ)، نسترجِعُ اليوم شريط أحزاننا القديمة ينثرُ عليها الحزنُ الجديد حفنةً من الملح، نقولُ يا أسفا على مَي السّكاف وباسِل شحادَة والقاشوش وعبد القادِر الصالح، وعلى كل أيقونةٍ راحلة.

 

كانت مي ممن حسمَ قرارهُ المبدئي منذ اللحظة الأولى، منذ "بيان الحليب" و "مظاهرة المثقفين بالميدان"، لم تكن تنتظر بلوغ الثورة ذروتها لتعتليها كراكبي الأمواج الموسميين، ولم تنتكس في لحظاتِ الضعف فتقفز كمن قفزوا من السفينة كالفئران التي لم تؤمن يوما بحتميةِ السفر وطوبا جزيرةِ الحرية والمدنية إنما تسللت لأجل قمحِ المكتسبات وجُبن التمويل والرهان على الورقة الرابحة فحسب، فلما أغرقها الماء وأخفى الضباب ملامحها كانوا أولَ من يتركُها ويلوذُ بالفرار.

 

قليلون هم الذين أعانونا على إنعاشِ أملنا المختنق في أن نرى نجما أو داعية أو مثقّفا يتحرر من سطوة البساط الأحمر وبقعة الضوء ليتحدثَ كإنسانٍ فقط بعيدا عن ماكياج الأدوار المتقلّبة والنصوصِ المكتوبةِ في الكواليس، والتراكيب المحفوظة المُلقّنة من المخرجِ ذي النياشين ‘السينمائية’.

 

مي سكاف التي رحلَت عنا كانت من أولئك النادرين الذين بادروا عندما حانت لحظة الانحياز الصعب ولم يمكثوا طويلا ليجسوا نبض المحيط ويراقبوا رجحان الكفّة ويحسبوا ميزان الصادرات والواردات، من الذين انحازوا للشعب والحرية والكرامة دون خوف من فقدان الحظوة والمكانة والامتيازات ولا تردد خوفا من الخوض في طريق لا رجعة فيه.

 

خسارةُ جيلنا المتشوّفِ للفروسية ومعاني الشهامة والمروءة التي تشربناها مما كبرنا على مشاهدتهِ من الفانتازيا ومسلسلات الفرسان والجوارِح خسارةٌ كبيرة، لأننا لم نفقد مَي ممثلة الثورة فقط، بل فقدنا معها هندَ البواسِلِ اللاجئة وربابَ الفوارس الشجاعة وعائشةَ ربيع قرطبة الحزينة وتيماءَ العبابيد الوسيمة الجريئة.

 

في حديث مَي بحّةٌ عميقة تعبّر عنا وعن أشواقنا المتعبة، كأن خلفها جرحٌ غائر في الحنجرة وراءه كبتٌ ثقيل وحاد، كملاكٍ حزين نشعرُ ببكائه وإن كان يغرّدُ ويبتسم، كعصفورٍ أدركَ في لحظةٍ فارِقَة أن حديقتَه التي كان يتغنّى بها وفيها مجرّدُ قفصٍ كبير يمُنّ عليك أن أتاحَ لها بعضَ الطيرانِ المحدود وأبقى لها بعض الريش فلم ينتفه كلَّه، فلما أن تجرأت على طلبِ العبور إلى الفضاء تحوّلَ فجأةً إلى سجنٍ موحش وزنزانة مظلمة، أُلقيَت فيها مَي مراتٍ عديدة منذ انطلاقِ الثورة، قبلَ أن تُحاصَر في منزلِها عندما أصبحَت دمشقُ كلّها سجنا كبيرا.

  

undefined

  

تذكر مَي بغيظٍ وحنق ما قيلَ لها إثرَ أولِ مُظاهرة خرجَت فيها لمناصرة درعا، عندما سُئلَت عن غايتها من وراء ذلك وما الذي ينقصُها لتحتَج وتتمرد "ألستِ في أمان، ألا تعودين لمنزلك بعد منتصفِ الليل دونَ خوف ؟"، أشعرَها ذلك بأن النزرَ القليل من الحياة الذي كانت تملكه كانوا يرونَه مَكرُمَةً ومنّة لا يليق بها المطالبةُ بأكثر منه فضلا عن إزعاج واهبِهِ لها.

 

ذكّرني هذا الموقفُ بمشهدٍ مؤلمٍ أتقنتهُ مَي ‘بحرفَنَة’ في مُسلسلِ البواسِل في دورِ هِند، وهي تتعرض للتأنيب لأنها تتقرّب من ولدِها المسلوبِ منها، ما يجعلهُ يشعر بأنها أمه الحقيقية، فيُطلَبُ منها أن تبتعدَ عنه حتى ينساها أو أن ترحَلَ عن القبيلَة، تذكّرها الأم الجديدة بأنها أطعمتها وآوتها وسمحت لها بالعيش معهم ولو شاءت لباعتها في سوق النخاسَة فلتتذكر ذلك ولتنسى.

 

مسموحٌ لها بالبقاءِ والتجوّل والذهاب إلى السوق وفعلِ ما تشاء، ولكنها ممنوعة من المطالبةِ بالشيء الحقيقي الوحيد الذي تريده بقوة وتحتاجُ إليه، يجبُ أن تكتفي بما أُعطيَ لها -ليسَ لأنه حقها ولكن كمَكرُمةٍ وتفضّل- وتنسى فلذة كبدها ليث، أو أن ترحَل، لا خيار ثالث، فتُجيبُ هِند "هذا ظُلم، مَوتي أهونُ علي من ذلك".

 

سنواتٌ قليلة في مقياسِ الزمن لكنها ثقيلةٌ في ميزانِ الوطن، قضتها مَي بعيدا عن دمشق بعد أن قرّرت الرحيل، مِن بيروت إلى عمّان كانت تحاولُ دائما أن تبقى قريبةً من سوريا، لكن الأقدار قذفتها بعيدا إلى باريس لتدفعَ هناك الشطرَ الآخر من ضريبة الموقف، بغربة قاسية وحالةٍ مادية صعبَة، الحزن والغربة كانا أكثرَ ما أنهكَ كيانها فكبرت عقودا في أعوام، لم يكن تمييز تعبها صعبا، كانت ملامِحُها مرهقة شاحبةً جافة عطشانة لمياه الغوطة، حتى خصلاتُ شعرِها فقدت سوادَها القديم، كان جليا أن جسدها يقتاتُ على نفسِه، أن أجزاءً كثيرةً من مَي قد استُنزِفَت فباتت عاجزةً عن المقاومةِ أكثر.

 

إلا قلبها الذي ظل صامدا لوحده متمسّكا بشعارها الخالِد "لن أفقد الأمل"، حتى اختطفته أسباب غامضة لا يُعرَف منها إلا الكمد والأسى، كما اختطف البعث جُلَّ الأمل، كما اختطف الشبيحة ابنها في مسلسلِ الولادةِ من الخاصرة، وهي تتوسل إليهم بشيبَتِها أن يسامحوهُ ويتركوه أو أن يأخذوها مكانَه، لكنها في الواقعِ لا في المسلسل ذهبت إلى رب المظلومين بشيبٍ حقيقي تتوسّل به القصاص، تاركةُ ابنَها خلفَها وقد أبقَت لهُ وصيتها الأخيرة، أملَها الذي لم يمُت.

 

لم تكوني جبانة يا مَي، كُنتِ درسا في الشجاعة، ولكنه دأبُ الشجعانِ الذين يريدون أن يكونوا في كل مكان وأن يتجرعوا كلَّ ألم، وأن يقاتلوا في كل معركة، وإلا فهم في أعينِ أنفسِهم جبناء مقصّرون، كما كنتِ تتمنين أن تكوني في الغوطة لتُقصَفي معهم بدلَ أن تسمعي صوت القذائفِ تتجاوزُ سماءَ منزلِك ذاهبةً إليهم.

 

صعبٌ جدا أن تكونَ أيقونةً لثورة، لثورةٍ ذكية أنضجَتها الخيباتُ والمآسي، فأضحَت لا تُخدَعُ بسهولة، ولا تكتفي بالشعاراتِ والمواقفِ المعلّبة، أن تكونَ أيقونة كمَي يعني أن تدفعَ ضريبة ثقيلة، ولكنه يعني أيضا أن تنال شرفا عظيما، كأن تذكُرَك منابرُ المساجِد وأنت مسيحي، أن تكونَ حجةً على الجبناء في أهازيجِ المتظاهرين من جميع الأطياف والأديان والمذاهب في جميعِ ميادين الشرف، أن يهتفَ باسمِكَ بُلبُل الثورة القاشوش في ساحةِ العاصي في حماه فيُغنّي :"مي سكاف يا صوت الحق، سَكَّتُوها قالت لا، ويلا إرحَل يا بشار"، أن تنعاك الثورة، الثورة ليست ساذجةً يا مي، والثورة لا تنسى، الثورةُ شهدَت لك بالشجاعة.

 

يا هِند ليث سيعودُ إلى حُضنِ أهلِه، صقرُ حيٌ يا رباب، صقر لن يفقدَ الذاكرةَ مجددا، قد يطولُ المسلسلُ هذه المرة، لكن النتيجةَ واحدَة، سيُهزَمُ بن آوى وترحل جيوشُ كايوس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.