شعار قسم مدونات

رسائل النور للنورسي (2).. في أسرار السعادة الإنسانية

blogs - النورسي

تأتي هذه المقالة تكملة لما بدأناه في تدوينة سابقة مع الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي حول كلمته الثالثة والعشرون، والتي تناول فيها الأستاذ الآيات الرابعة والخامسة والسادسة من سورة التين، حيث قال سبحانه وتعالى "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، وقد اخترت أن أطلق عليها عنوان قوة الإيمان وحقيقة الإنسان لما ضمنها استأذنا من درر وأسرار، كان الجزء الأول منها حول قوة وأهمية ومحاسن الإيمان، لننتقل في هذا الجزء الثاني إلى روعة التدبرات النورسية حول سعادة الإنسان وشقوته، والتي يعدها في خمس نكات.

 

ولكن قبل الولوج إلى معالجة المعاني النورسية حول السعادة الإنسانية، أدعوا السادة القراء إلى قراءة وتأمل رسائل النور، خاصة منها هذه الرسالة التي نحن بصددها. والدعوة موجهة أيضا إلى كل إنسان يبحث عن ذاته فلا يجدها، ويبحث عن سعادته في الأهواء والشهوات فلا يستشعرها، انك مع الأستاذ النورسي تستشعر سعادة غامرة ليس بعد أن تقرأ كلامه وتتأمله فحسب، وإنما تؤخذك السعادة وأنت لا تزال بين يدي رسائل النور. لذلك كان كلام الأستاذ رحمه الله يترجم حاله، ويعكس مجاهدة ومكابدة صادقة ونادرة في هذا الزمان، ولعل ذلك مما أورثه حلما وعلما وعمقا في فهم وسبر أغوار النفس البشرية.

 

فيبدأ الأستاذ بديع الزمان حديثه عن الإنسان في النكتة الأولى، مشيرا إلى أهمية الفضاء الداخلي الجواني للإنسان، المملوء بالكثير والكثير من الاحتياجات والتي لا يمكن تلبيتها إلا من المعبود الحقيقي ألا وهو الله سبحانه، لأنه في حقيقة الأمر "لا يستطيع احد تلبية حاجات الإنسان اللامحدودة إلا من له قدرة لا

يربط الكاتب سعادة الإنسان بحقيقته الكامنة في أصالة ملكاته ولطائفه واستعداداته الموهوبة والموجهة لتحقيق العبودية لله سبحانه. ومتى تأمل الإنسان مكانه في الأرض عرف مكانته في السماء

نهاية لها وعلم محيط شامل لا حدود له".

 

فالله سبحانه قد هيئ الإنسان ووهبه عدة لطائف واستعدادات، تمكنه من الارتقاء في درجات معرفة الله، ومثل الإنسان في هذا كمثل البذرة تماما، كما قال الأستاذ النورسي في نكتة ثانية مضيفا أنه "إذا ربى الإنسان بذرة استعداده وسقاها بماء الإسلام، وغذاها بضياء الإيمان تحت تراب العبودية، ووجهتها جهازاتها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية، فلابد أنها ستنشق عن أوراق وبراعم وأغصان تمتد فروعها وتنفتح أزاهيرها في عالم البرزخ، وتلد في عالم الآخرة وفي الجنة نعما وكمالات لا حد لها".

 

وبذلك فإن سعادة الإنسان تكون بحسن توجيه جهازاته المعنوية ورعايتها تحت ظل العبودية، لأن "إخضاع تلك اللطائف السامية… لأوامر النفس والهوى وطمس وظائفها الأصلية يعتبر سقوطا وانحطاطا وليس ترقيا وصعودا". وينبهنا الأستاذ النورسي إلى أن سعادة الإنسان الحقيقية، لم تكن قط بالانغماس في المتع واللذات الدنيوية الفانية، وإلا فإن الحيوان يسبقه في هذا المضمار بأشواط كثيرة، "لان الإنسان يجد مع كل لذة يلتذ بها ويتذوقها آثار آلاف الآلام والمنغصات، فهناك آلام الماضي وغصص الزمن الخالي، ومخاوف المستقبل وأوهام الزمن الآتي، وهناك الآلام الناتجة من زوال اللذات"على حد تعبير بديع الزمان في نكتته الثالثة.

 

هكذا يربط الكاتب سعادة الإنسان بحقيقته الكامنة في أصالة ملكاته ولطائفه واستعداداته الموهوبة والموجهة لتحقيق العبودية لله سبحانه. ومتى تأمل الإنسان مكانه في الأرض عرف مكانته في السماء، عندئذ يمكن للإنسان القول بأنه أحسن مخلوق عند الله سبحانه، بل إن الله قد سخر له كل المخلوقات والمصنوعات البديعة لتكون طوعه وفي خدمته، وهيأ له دائرة كبيرة وعظيمة من الفوائد والمنافع والمصالح، "نصف قطرها مد البصر بل مد انبساط الخيال".

 

ثم نأتي إلى النكتة الرابعة لنلاحظ أن الأستاذ النورسي، كأنه يستبطن الرأي الذي يعتبر إن الإنسان من اضعف المخلوقات وأعجزها على الإطلاق. فيبدأ في دحضه بكلمات رقيقة فيقول "إن الإنسان في هذا الكون يشبه طفلا ضعيفا محبوبا، يحمل في ضعفه قوة كبيرة وفي عجزه قدرة عظيمة، لأنه بقوة ذلك الضعف وقدرة ذلك العجز، سخرت له هذه الموجودات وانقادت" ثم يسوق مثالا مختصرا وجميلا يدعم به كلامه، قائلا "إن القوة الكامنة في ضعف فرخ الدجاج تجعل أمه تدفع عنه الأسد بكل ما عندها من قوة".

 

تتحدد حقيقة الإنسان في تحقيقه لمقام العبودية والذي يرتقي به إلى الدرجات والمقامات العلية المفعمة بالسعادة الأبدية. وقد بين الأستاذ بديع الزمان أن سعادة الإنسان لا تنال بعيدا عن الإيمان

إذن فإن الإنسان عاجز وضعيف بنفسه ولكنه قوي وغني بإيمانه وتوكله على ربه، وهذا ما أراد الأستاذ بديع الزمان إيصاله والنصح به، حيث يقول بنبرات الوعظ والإرشاد "فيا أيها الإنسان ما دامت الحقيقة هكذا دع عنك الغرور والأنانية، وأعلن أمام باب الألوهية عجزك وضعفك بلسان الاستمداد، وفقرك وحاجتك بلسان التضرع والدعاء".

 

نعم هكذا يحث الكاتب الإنسان على التحلي بنور الإيمان والروح الايجابية، وعلى القطع مع أوهام اليأس والخنوع والسلبية، بل يدعو الإنسان إلى أن يرفع رأسه ويقول بمليء فيه، "إن ربي الرحيم جعل الدنيا مأوى ومسكنا وجعل الشمس والقمر سراجا ونورا، وجعل الربيع باقة ورد زاهية، وجعل الصيف مائدة نعمة وجعل الحيوان خادما ذليلا لي، وأخيرا جعل النبات زينة وأثاثا وبهجة لداري ومسكني".

 

هكذا تتحدد حقيقة الإنسان في تحقيقه لمقام العبودية والذي يرتقي به إلى الدرجات والمقامات العلية المفعمة بالسعادة الأبدية. وقد بين الأستاذ بديع الزمان أن سعادة الإنسان لا تنال بعيدا عن الإيمان، طوال حديثه في هذا المبحث والذي كانت كل نكاته مترابطة ومتماسكة، حيث تمهد النكتة للأخرى فلا تقف على انقطاع حبل الأفكار، وإنما تلاحظ سبيكة ذهبية معنوية ولعل ذلك ما يعكس قدرة المتدبر لآيات الله ويظهر روعة كلامه.

 

وفي نهاية المطاف ها أننا نقف على جبل من الجبال الشم بتركيا، واللذين لم يستسلموا أمام قهر الظلم وحرب الأعداء، وإنما وقفوا موقفا صارما في رد كيدهم ومواجهة جيشهم مواجهة كان أساسها نشر العلم والمعرفة، وحب القرآن والإيمان والإنسان، وما هذه الرسالة إلا قطرة من فيض علم وحلم هذا الرجل الرباني، الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي مضى إلى ربه، وترك رسائل النور ليقيم بها الحجة على كل الظلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.