شعار قسم مدونات

ثنائية السلطة والعنف!

ميدان - العنف والسلطة اعتقال مصر

أقر اسبينوزا سابقاً أن جميع الأفعال اللاأخلاقية واللاقانونية وغيرها مما لا يليق بنوعنا الإنساني هو في تجاهل الإنسان لسلطة العقل ونزوع الفرد للفعل بتأثير من الرغبات والميول، كبواعث مناقضة لسلطة العقل، وهو الأمر الذي اتفق معه فلاسفة أخرون مثل كانط وهيغل الذي جعل من مبدأ عمل العقل تعقيل الواقع وجعل كل ما واقعي عقلي، والعكس صحيح بالضرورة، على اعتبار أن العقل لدى كثير من الفلاسفة هو المشترك البشري الأهم.

   
وبالتالي يمثل العنف فعلاً إقصائياً للممارسة العقلانية، والسؤال هنا: هل ثمّ عنف مبرّر وآخر غير ذلك؟ في عالم السياسة يبدو ذلك! ففي كلاسيكيات الفلسفة الحديثة أصطلح على تسمية حالة الأفراد ما قبل تأسيس الدولة بالحالة الطبيعية، وتعني مرحلة الفوضى والعنف وحرب الكل ضد الكل، ويقابلها الحالة القانونية للدولة وتعني مأسسة العنف لا نهايته، بل احتكاره من قبل سلطة سياسية تسعى نحو الهيمنة والاخضاع، والهيمنة هنا تعني "تأويل زائف للسلطة بوصفها سلطة إكراه" على حد تعبير الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت. فالدولة المتمثلة في شعب وسلطة سياسية تمنح هذه الأخيرة حق استخدام العنف من أجل القضاء على العنف الذي يتولد بين جموع الشعب، أو خروج بعضهم على القانون، فالقضاء على الفوضى والعنف يتطلب عنف آخر مقنن أو مشرعن تمتلكه سلطة تسعى لإنهاء حالة لا قانونية من أجل العيش السلمي والقانوني.

   

ترفض أرندت التلازم بين السلطة والعنف، وتعتبره فهماً ماركسياً لدولة لا يفهم منها سوى أنها أداة قمع تمتلكها طبقة حاكمة. ومما يؤكد هذا الفهم للدولة بوصفها جهازاً قمعياً

إن في عصر التكنولوجيا والتوظيف الأيديولوجي للعلم أصبح جوهر فعل العنف تسيّره مقولة الغاية والوسيلة كما ذهبت إلى ذلك أرندت في مؤلفها "في العنف"، حتى بات المبرر الوحيد لسباق التسلح للدولة الكبرى، أي "القوى التي تتحرك على المستوى الأعلى لحضارتنا البشرية" يقوم على اعتبار "أن المزيد من الردع هو خير ضامن للسلام"، فسياسة الردع العسكري المتكئ أساساً على التقدم التقني هي اللاعب الأساسي في عملية الحرب والسلم معاً، وهو ما يحدد شكل العلاقات الخارجية للدول، حيث تقول أرندت: "إن كان جوهر السلطة ممارسة القيادة، من الواضح أن ليس ثمة سلطة أكبر من تلك التي تنبع من فوهة البندقية"، فحفظ الأمن وتطبيق القانون بحاجة لقوة ترهيبية قمعية تمارس العنف أحياناً لأجل حفظ مفاهيم الهيبة والأمن والقانون التي يتذرع بها أحياناً بعض المكلفين بتبرير العنف واستخداماته، ولا غرابة إذاً في استشهاد أرندت فيما عبّر عنه سابقاً توماس هوبز "إن المواثيق في غياب السيف ليست أكثر من كلمات".

   
وترى أرندت أن كارل ماركس لم يغفل دور العنف في التاريخ، حتى وإن اعتبره ثانوياً، فظهور المجتمع الجديد يسبقه أعمال عنف دون أن يكون هذا العنف سبباً له، وهو ما يشبه الآلام التي تسبق الولادة، دون أن تكون الولادة نفسها ناتجة عن تلك الآلام، فلم ير ماركس في مفهوم الدولة سوى أنها أداة عنف بيد طبقة حاكمة تتولى قيادتها.

   
ولكن هل هذا يعني التماهي بين مفهومي السلطة والعنف؟ أو هل ثمة سلطة بلا عنف؟ يجيبنا ماكس فيبر من خلال تصوره لمفهوم الدولة بوصفها "سلطة للناس على الناس قائمة على أساس أدوات العنف المشروع، أي العنف منظوراً إليه على أنه مشروع"، وهو أمر لا يروق لأرندت التي ترفض هذا التلازم بين السلطة والعنف، وتعتبره فهماً ماركسياً لدولة لا يفهم منها سوى أنها أداة قمع تمتلكها طبقة حاكمة. ومما يؤكد هذا الفهم للدولة بوصفها جهازاً قمعياً، هو ما ذهب إليه الفيلسوف الماركسي ليو ألتوسير في دراسته الموسومة بـ (الدولة وأجهزتها الأيديولوجية) حيث يرى أن هذا القمع هو ما يمكن للطبقة الحاكمة من البقاء في مكاسبها الاقتصادية والسياسية والسيادية على حد سواء، من خلال ضمان هيمنتها على الطبقة العاملة فيما يسمى "بعملية ابتزاز فائض القيمة (الاستغلال الرأسمالي)".

    

ومن أجل تحقيق هذا الهدف كان على الدولة استخدام أجهزتها الأيديولوجية كالشرطة والمحاكم والسجون، وأيضاً الجيش كقوة قمعية تكميمية للقضاء على أي تحرك ثوري في صراع الطبقة الحاكمة – البرجوازية مع الطبقة العاملة، وبالتالي باتت الدولة، بحسب هذا الفهم الماركسي، هي والعنف وجهان لحقيقة واحدة، وهو تصور ترفضه أرندت انطلاقاً من رفضها المماثلة بين السلطة والعنف. فالسلطة لدى أرندت دوماً تعتمد على دعم شعبي، بينما العنف فهو ليس بحاجة لأعداد ومؤيدين، بل إلى أدوات قمعية فقط، وبالتالي ترى "أن الشكل الأكثر تطرفاً للسلطة هو ذاك الذي يعبر عنه شعار (الجميع ضد الواحد) أما الشكل الأكثر تطرفاً للعنف فهو الذي يعبر عنه شعار (الواحد ضد الجميع)" ولو استبدلنا مفهوم الثورة بالسلطة، والإرهاب بالعنف سيستقيم المعنى لدى ميشيل فوكو الذي أعتبر أن الثورة هي فعل الأكثرية ضد الأقلية، بينما الإرهاب هو فعل الأقلية ضد الأكثرية. ففي حين تحتاج الثورة إلى عدد كبير من المؤيدين، فإن الإرهاب بحاجة إلى أدوات فقط، سواء على مستوى إرهاب الدولة أو إرهاب الجماعات.

  undefined

 

إن العنف لدى أرندت يتميز بطابعه الأدواتي، وبالعودة إلى ألتوسير وتصوره عن الدولة وأجهزتها الأيديولوجية في ترسيخ سلطان الطبقة الحاكمة بالعنف والإكراه، وباستخدام أدوات بوليسية إزاء أي احتجاج شعبي مناهض لهذه السلطة، فإن القرن العشرين يخبرنا أن الثورات باتت تمتلك الأسباب الأقل للنجاح، ومرد ذلك لدى أرندت هو في تنامي القدرات التدميرية للأسلحة والوسائل القمعية البوليسية التي لا تمتلكها سوى الحكومات في مواجهة شعوبها. ومع هذا تبقى أدوات القمع ليست هي العامل الحامل لقوة السلطة الحاكمة، بل إن قوة السلطة مرجعها التنظيم في استخدام العنف الممنهج استخداماً ناجحاً في مواجهة الفوضى وحركات التمرد والعصيان الشعبي.

 
وكأن ما هو سياسي حامل في جوهره لمفاهيم الاخضاع والسيطرة، ففي مؤلفها (ما السياسة؟) تذكر أرندت أن السياسة "ضرورة قهرية للحياة الإنسانية، سواء تعلق الأمر بالوجود الفردي أو الجماعي"، فالأفراد لديهم مشترك وجودي للعيش بسلام داخل دولة بوصفها مقولة سياسية تمتلك شرعية استخدام العنف لمنع حرب الكل ضد الكل.

  
ففي تمييزها الأهم بين السلطة والعنف، ترى أرندت أن السلطة تكمن في جوهر أي حكومة، أما العنف ليس جوهراً، بل هو تعبير أدواتي يدل على وسيلة وليس غاية، أما غاية الحكومة فهو دوماً السلطة فقط، فكلما تراجعت السلطة فتح المجال أمام العنف كوسيلة لسيطرة البعض على البعض الآخر، لا سيما في دول ذات سلطة دكتاتورية غير قانونية، حيث تتوسل الثلة الحاكمة بالعنف لإنهاء تحركات شعبية ثورية، في دراما دموية عبر عنها اسبينوزا في رسالته اللاهوتية السياسية، حينما يصبح بعض المواطنين في مثل هذه الدولة أعداءً لها، أي في دولة تمارس العنف والإكراه إزاء شعبها، فيرفضها الأحرار ويتملقها الانتهازيون، فينقسم الشعب إلى قسم يسقط شهيداً للحرية، وقسم آخر يصفق للجلادين. ففي صدام أي سلطة مع الشعب، لا بد وأن ينتهي المشهد باستخدام العنف بأدوات قمعية في مثال لدولة تأكل أبناءها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.