شعار قسم مدونات

المتعالمون… بين باقل وسحبان وائل

blogs شيوخ السلطان

كثيراً ما نسمع من يقول هذا زمن ساد فيه باقل، وذل سحبان وائل، فمن هو باقل، ومن هو سحبان وائل؟ هما شخصيتان عربيتان حقيقيتان، عُرف الأول بالغباء، وعُرف الثاني بالفصاحة. فأما باقل فهو رجل يُضرب به المثل في العيّ، قيل إنّ أمه كانت تعلمه طوال النهار اسمه، وحين يحلّ المساء ينساه مجدداً، حتى لجأت في النهاية إلى وضع قلادة في رقبته مكتوب عليها اسمه، وفي يوم ما نام وهو يضعها، وحين استيقظ وجد أخوه يلبسها فقال له: (أنت أنا فمن أكون أنا؟!).

ويُحكى أيضاً أنه اشترى مرة ظبياً حيّاً بأحد عشر درهماً وسُئل: بكم اشتريته؟ فأشار بأصابعه العشرة ومدّ لسانه ليشير إلى العدد أحد عشر، فهرب الظبي منه لما أفلته وضاع، ومن هنا عرف باقل بأنه أعيا العرب وضُرب به المثل بالعيّ والبلادة والغباء. وأما سحبان وائل، فهو سحبان بن زفر الوائلي فصيح العرب وخطيبها، يُضرب به المثل في الفصاحة والخطابة، أدرك الجاهلية وأسلم. روى عنه الأصمعي أنه إذا خطب وقف وما قعد حتى يختم، وحين قيل له أنت أخطب العرب قال: العرب وحدها؟ بل أخطب الجن والإنس، وله بيت مشهور يقول فيه عن نفسه:

لقد علم الحي اليمانيون أنني.. إذا قلت أما بعد أني خطيبها

وما ذكرت خبر هذين الرجلين إلا لأن التفريق بين  الصحيح والعليل، والجيِّد والرديء، والجيِّد والأجود لا يكون اعتباطا؛ والحكمُ على شخوص الناس مستلزمٌ لمعيار ضابط أو ملكةٍ كاشفة عن موضع الحسن والقبح في كلِّ قولٍ أو عملٍ أو مادَّة. وإن أكثر ما يحزننا أننا أصبحنا في زمن كثرت فيه الزيوف، وأكثرَ فيه المتعالمون من بثِّ جهالات مظلمة تكاد تحجب شمسَ العلم وتُعمِي عن نورِ الحق، حتى ساد وتصدر من ليس أهلا للسيادة ولا للصدارة، مع فشو القلم، وكثرة الكذب، والقول على الله بلا علم، ونطق الرويبضة؛ وهو الرجل التافه الحقير الذي يتكلم في أمور العامة، وهو من العلم خواء وفؤاده هواء، وتكلم البعض في أمور الدين والدنيا دون زمام ولا خطام.

رفقا بأنفسكم أيها المتعالمون الجدد، المُفتون في كل فن، فلا صوتكم يُسمع، ولا منشوركم يُقرأ، فعلام تتعبون أنفسكم؟! فلا تغتروا بنقلكم عن غيركم، ولا بما سودتم به مداد ورقكم

كم آسى على أولئك الذي ظنوا أنفسهم أنهم بلغوا من العلم منتهاه، فتكلموا في الدِّين ولم يكونوا من أهله، وشغلوا أنفسهم بخلافات الدول وأمور السياسة، عن شئون أنفسهم وأسرهم، وهم في دائرة الخلاف الدائرة نكرة لا ناقة لهم ولا جمل. لقد غرتهم أنفسهم أن الناس بدأوا يميلون لهم، وهم في الوصف، أدعياء علم أولى من قولنا طلبة علم، ولم لا وهم قد ناموا عن العلم فما استيقظوا، وبالغوا قبل أن يبلُغوا، والذين عناهم الإمام الشافعيّ –رحمه الله تعالى- بقوله: "فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلَّم في العلمِ من لو أمسكَ عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله".

وأيم الله لو استمعت إلى حديث أحدهم لوجدت حديثه خواء، فلو سألته عن كلامه في القناة الفلانية، أو صنيعه في كتابته لقال كما قال القائل: إنه للسلف الصالح متَّبِع، وعن الخلف الطالح منخلع، وهو في الحقيقة على عكس القول سائر، وعلى مسلخ الخلف صائر، فما عرفنا في سلفنا إلا الورع، وودَّ كلُّ واحد منهم لو أن أخاه كفاه أمره! لقد استنوق الجمل، وكبر على الطوق الطفل، حتى بلغ بهم الأمر أن سفّهوا علماء الأمة ووصفوهم بأقذع الأوصاف، فتجدهم يشتمون ويلمزون، وما علم الجاهل أن هؤلاء الأكابر الذين سود صفحات ورقه بمداد جهله، أكثر الناس علمًا وورعًا، فهم يهابون ما اقتحمه هذا المتعالم في هذه الأيام.

فرفقا بأنفسكم أيها المتعالمون الجدد، المُفتون في كل فن، فلا صوتكم يُسمع، ولا منشوركم يُقرأ، فعلام تتعبون أنفسكم؟! فلا تغتروا بنقلكم عن غيركم، ولا بما سودتم به مداد ورقكم، فوقتكم هذا كما أخبرتكم، قد سادَ فيه باقِل، وذل سحبان وائل. رفقا بأنفسكم أيها المساكين، فالخلافات بين الدول، والمشاحنات بين الأصدقاء الأُول، مصيرها إلى صلح ووئام، والافتراق بين الإخوان حتما إلى التئام، وكأني بكم بعد اجتماع  الإخوة تبحثون عن منشوراتكم سراعاً، لتحذفوها من جميع حساباتكم، ولكن هيهات هيهات، فقد سبق السيف العذل، وما كتبتموه سيظل شاهدا على ضحالة فكركم، وجهلكم المركب.

وأيم الله لقد صدّق عليكم إبليس ظنه حين قال لكم: إن صنيعكم هذا نصرة للدين، وما علمتم أن الدين منه براء، وغرّكم فهمكم المنكوس لنصوص الكتاب العزيز وأحاديث المصطفى، ولكن لا غرابة، فهذا زَمان استملح فيه الجَهل، واسْتهجن العِلم، حتى رأينا أمثال توما الحَكيم يُعظّم، وكل علَّامة فهيم بقلمهم يُحقّر. ولله در القائل:

متى تصل العطاش إلى ارتواء 
إذا استقت البحار من الركايا
ومن يُثني الأصاغر عن مراد 
وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإنّ تَرَفُّعِ الوضعاء يوما 
على الرفعاء من أدهى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي 
فقد طابت منادمة المنايا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.