شعار قسم مدونات

قفزة البهلوان.. قراءة في ظاهرة المسابقات الغنائية

blogs غناء

تخيل نيتشة في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" مشهدا مفترضا يقف فيه زرادشت وسط الجماهير ليشاهد معهم بهلوانا يمشي على حبل فيلحقه بهلوان آخر مسرعا وهو يقول: "تقدم أيتها الدابة المتلكئة، المهرّب المتسلل، يا شاحب الوجه، تقدم لئلا أدغدغك بقدمي، ما الذي تصنعه هنا بين قلعتين؟!، داخل القلعة مكانك، والحبس أولى بك، إنك تسد الطريق على من هو أفضل منك". وفي المشهد يقفز البهلوان الثاني ليتجاوز الأول فيسقطُ البهلوان المتباطئ صريعا على الأرض، نمشي بعدها مع أحلام رزادشت وآلامه وهو حاملٌ جثةَ ذلك البهلوان ليدفنها في الغابة الموحشة.

ربما كانت غاية نيتشه من مشهد الدفن ذاك التأكيد على أن مكان الضعفاء في هذه الأرض هو أن يُدفنوا في الغابات الموحشة، فقد تكفل زرادشت الذي ما يفتأ يدل الناس على الإنسان الأعلى ويبين لهم أنهم في منزلة بين منزلتين، بينه وبين الحيوان، تكفل بمحو أثر ذلك البهلوان الضعيف بعد أن تركته الجماهير جثة في رمقها الأخير. ولنتأمل صورة تلك القفزة البهلوانية، قفزة التفوق السريعة المتجاوزة التي قتلت الماضي في صورة البهلوان الأول لتتقدم سراعا نحو المستقبل، قفزة معناها أن الزمان من عهد نيتشة حليف السرعة وأخو الوثبات السريعة، زمان تجاوز خط الحضارة الممتد ببطء من بداية الخليقة حاملا على كاهله ثقافات العصور السابقة وحضاراتها المغرقة في القدم. ليبني لنفسه نمطه الخاص في التقدم.

كان ماكس فيبر واقفا على أبواب هذا الزمان محذرا من عملية عقلنة للعالم تَستبدل بالتقاليد والعادات أنظمةً عقلانية حسابية أكثر كفاءة وسرعة، بحيث تصبح المجتمعات عبارة عن أقفاص حديدية نمطية تحكمها بيروقراطيات متماثلة، وليتحقق نوع من التجانس العقلاني على حساب عادات الشعوب وتقاليدها وحضاراتها المتنوعة. وعلى منوال ماكس فيبر نسج "جورج ريتزر" فكرته عن "مكدلة المجتمع " "McDonaldization"، عملية عقلنة قيم المجتمع وتحويلها إلى معادلة سرعة وكمية.

تقوم فكرة هذه البرامج على مفهوم سأدعوه (الإشباع الفوري) وهو مماثل لنمط ماكدونالدز في تسريع ملئ بطون مليارات المستهلكين، فهي تمثل طرقا مختصرة لتحصيل التحقق الذاتي والشهرة والمجد

وقد أخذ ريتزر مفهومه لمكدلة المجتمع من فكرة سلسة مطاعم ماكدونالدز. في خمسينيات القرن المنصرم ظهرت سلسلة مطاعم ماكدونالدز ولاقت انتشارا ونجاحا باهرا، وفيما بعد تم ادخال مفهوم خطوط الانتاج لهذه السلسلة من المطاعم بغية خدمة أكبر قدر من الزبائن في أقصر وقت ممكن، كان أن تضخمت بعد ذلك هذه السلسلة لتتجاوز الولايات المتحدة ولتصبح في كل مكان في العالم، وإن كان لنا أن نقرأ ما هي التغييرات التي أحدثتها ماكدونالدز في مفهوم المطعم كما كان راسخا في العادات والتقاليد السابقة فسنجد تغييرات جذرية هي بمثابة عقلنة الوجبة الغذائية وترشيدها. وسنوجزها في النقاط التالية:

* التوحيد والتنميط، فقد تم اختزال التنوع في الوجبات الغذائية والأطباق وجعلها نوعا واحدا أو اثنين لتسهيل وقت الاختيار بين البدائل، ولتسهيل عملية تحضير الوجبة.
* التسريع، وفيه استخدام مفهوم خط الانتاج لتسريع عملية تحضير الوجبة وبالتالي تقليص الفترة الزمنية بين طلب الوجبة وتناولها و بالتالي تقليص الفترة الفاصلة بين الجوع والشبع، وهو أمر يخدم رغبة المستهلك.
* الاكتفاء الموهوم، وهو محاولة لتقديم الوجبة بأقل سعر ممكن لاستيعاب أكبر شريحة ممكنة من المستهلكين، مما أدى إلى توهم المستهلك الفقير أن له القدرة على شراء اللحم.

* التساوق الزمني، وهو تمكين المستهلك من تناول وجبته أثناء القيام بعمل آخر، وهو قضاء واضح على مفهوم فترة الطعام من حيث جعلها مساوقة لنشاط الإنسان اليومي لا أن يخصص لها وقتا منفصلا.

يمكن ملاحظة التغييرات السابقة باعتبار أنها عقلنة لمفهوم الوجبة الغذائية كمظهر اجتماعي تقليدي، لتصبح خاضعة لمعايير كمية مع تقلص الحيز الزمني للوجبة الذي كان فرصة للتواصل الاجتماعي بين الأفراد ولتعزيز الروابط المجتمعية. ويمكن أن ينظر لهذه العملية كمظهر من مظاهر العقلنة الشاملة للمجتمع ما نفتأ كل يوم نتبين مظاهر أخرى مشابهة لها في جوانب متنوعة، وفي الإمكان اعتبار ظاهرة "ستاربكس" كسحب لمفهوم "المكدلة" على نطاق أوسع أيضا.

برامج المسابقات الغنائية:

على النمط نفسه وبنفس الطريقة يمكن ملاحظة ظاهرة برامج المسابقات الغنائية ومسابقات المواهب، فهي سلسلة من البرامج تحولت إلى ثيمات يمكن تطبيقها حول العالم، وقد انتشرت معظم هذه البرامج في أكثر من خمسين دولة عالميا، وقد تم تحويل هذه البرامج إلى نسخ عربية ابتداء من عام 2006 مع برنامج X-Factor بريطاني المنشأ، ومن ثم برامج منافسة مثل Arab idol (سنة 2012) و برنامج "أحلى صوت The Voice " (ابتداء من 2012 أيضا ) و Arabs Got Talent (ابتداء من 2011) سجلت أغلب هذه البرامج نسبة مشاهدة بالملايين، ونسبة متابعة على الفيس بوك وتويتر تخطت النصف مليون متابع.

تقوم فكرة هذه البرامج على مفهوم سأدعوه (الإشباع الفوري) وهو مماثل لنمط ماكدونالدز في تسريع ملئ بطون مليارات المستهلكين، فهي تمثل طرقا مختصرة لتحصيل التحقق الذاتي والشهرة والمجد لمجموعة من الأفراد بدل النمط التقليدي البطيء الذي يتطلب المرور بصعوبات أهمها الوصول إلى جمهور واسع، ومن ثم كسب إعجابه ومحبته. فنادرا ما كانت تتحقق الشهرة لشاعر أو فنان أو مخترع بوقت وجيز لا يتعدى أسبوعين فقط، ونادرا ما كانت تُكتَسب شهرةٌ ضخمة بجهد لا يذكر.

إذا ما تم تحديد معنى الموهبة في هذا النمط واستبعاد الأنماط الأخرى الأكثر تجذرا لمعنى الموهبة في الفضاء العربي، فسندرك أن النجاح بهذه البرامج بمثابة حلم جميل ينسينا مواضع الخلل
إذا ما تم تحديد معنى الموهبة في هذا النمط واستبعاد الأنماط الأخرى الأكثر تجذرا لمعنى الموهبة في الفضاء العربي، فسندرك أن النجاح بهذه البرامج بمثابة حلم جميل ينسينا مواضع الخلل
 

فما على المشترك في هذه المسابقات سوى عرض موهبته لتقوم هذه البرامج بفعل شهرتها الواسعة وانتاجها الضخم بتسويق هذا الشخص لجمهور واسع في أقل من ساعتين، فقط عليك أن تشترك والبرنامج يتكفل بالإعدادات: تخت موسيقي وإضاءة مسرحية على أعلى مستوى وجيوش من المخرجين والمعدين والمحررين لتوليف قصة سريعة تقربك من قلوب الجمهور، وبعدها لجنة تشيد بموهبتك من أكبر المشاهير، وإذا فهي تذكرة دخول سريع إلى عالم الشهرة والمال والتحقق الذاتي.

وباستقراء سريع لهذه البرامج نجد أنها تعرض لنمط محدد من المواهب (تَذَكّر مفهوم التوحيد والتنميط)، تكون من النوع الدارج في أوساط الجمهور مثل الرقص والغناء والتمثيل، وبالتالي فهي تستوعب أكبر شريحة ممكنة من المواهب ليحصل (اكتفاء موهوم) لدى المجتمع بأنه مليء بالمواهب، وعلى هذا الأساس تبدأ المنافسة عالميا، وليس هناك أكثر سخرية من عنوان على إحدى الصحف يمثل هذه الحالة "لقد أثبت العرب أن لهم مواهب" “Arabs proved they have talents”.

النجاح قفزة بهلوانية.. والفشل سقطة قاتلة

وإذا فقد تحققت صورة البهلوان القافز ، والبهلوان الصريع ، فالنجاح والتقدم والشهرة والمجد الذاتي أمور تم فصلها عن التاريخ و الزمان ، وأصبحت قفزات متجاوزة سريعة تمقت البطء والتباطؤ، وليس درب النجاح إذا متدرجا بل وثبة كالأحلام من اللاشيء إلى آفاق النجومية و امتيازاتها الاجتماعية والمالية، والسياسية أيضا، و ليست معايير النجاح والمواهب في هذه البرامج إلا ما يقرره صاحب السلسلة كما قررت ماكدونالدز أن يكون الهامبرغر وجبتها المميزة، وإذا ستغيب عن مشاهد النجاح هذه قصص النجاح الملحمية الصراعية التي يحفل بها التاريخ، من اختراعات وفنون و أفكار ومذاهب، لتحل محلها قصص نجاح فورية. وستظهر مشاهد الفشل الذريع أيضا (مع أن الأصل أن يتكتم الفاشل على فشله في الأغلب او لا يذكره الا بعد نجاحه)، لكن في هذه البرامج يكون الفشل سقطة قاتلة ليس في الإمكان النهوض بعدها، كيف والفاشل يُدمغ بالفشل على رؤوس الأشهاد.

وباعتبار ما سبق يمكننا أن نلاحظ أنه إذا ما تم تحديد معنى الموهبة في هذا النمط واستبعاد الأنماط الأخرى الأكثر تجذرا لمعنى الموهبة في الفضاء العربي، كما نرى في المشاركة العربية المتواضعة والباهتة في الأولمبيات وخصوصا في ألعاب اشتهر العرب بها تاريخيا مثل الرماية وركوب الخيل، فسندرك أن النجاح في هذه البرامج بمثابة حلم جميل ينسينا مواضع الخلل (يمكن مراجعة مقالة الأستاذ رياض العيسى "الربيع العربي بين أولمبياد بكين 2008 ولندن 2012" في هذا السياق …). فيبدو إذا أننا أمام ظاهرة جديرة بالاهتمام نقديا، وجديرة بالوقوف عليها بالتحليل، ويبدو أننا نتراقص على حبل العقلنة والترشيد ونوشك أن نسقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.