شعار قسم مدونات

تصيد الأخطاء.. واقع مرير

blogs - 87-6-main
 

في الوقت الذي تنتشر فيه برامج التواصل في دنيا الناس حتى غدا العالم كقرية صغيرة، فقد أصبح الوضع الحالي لا يبشر بخير، ففي الوقت الذي بلغ بنا الحرص على اقتناء هذه التكنولوجيا والاستفادة منها، إلا إنها أبانت عن أخطار كبيرة لم تكن معروفة في السابق، فقد دخلت كل بيت، وأصبحت بيد كل شخص، والمجهول لا يعلمه إلا الله، لست بالناكر لفوائد التكنولوجيا، ولا أدعو إلى التخلي عنها كليا؛ بل أدعو إلى التنبه واليقظة لمخاطرها وكوارثها، وخصوصا بين أهل العلم والدعاة إلى الله وخاصة في باب التناصح فيما بينهم.

  

شتان بين من يتتبع عورته ويتصيد كلماته وعباراته بشر من البشر، وبين من يتتبع الله عز وجل عورته

فالبعض من الدعاة اليوم رأوا الاستفادة منها في جانب لم يكن معهودا فيما مضى من الزمن، وأعني بذلك نشر الأخطاء التي قد تقع من بعضهم، حتى غدا البعض منهم يتتبع الزلات والهفوات، وينشرها بين الملأ، مما جعل فئات كثير من أفراد المجتمع على اختلاف أهوائهم ومذاهبهم يطيرون بها فرحا، ويتداولونها في مجالسهم وفي وسائل التواصل، ويستدلون على صحة من يقولون بما ذكره الداعية الفلاني عن أخيه الداعية الآخر، الدعاة إلى الله تعالى ليسوا بمنأى عن الخطأ، وخصوصا من كان منهجه على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتخلق بأدب الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب حقّ لازم، لا سبيلَ للدفاع عن الأخطاء أو تبريرها -إن وجدت- إذ ليس أحدٌ من العلماء إلاّ وله نادرة، فينبغي أن تُغمر في جنب فضله وتجتنب.
   
مشكلتنا اليوم مع بعضنا البعض أن البعض منا أخذ يحشْد الهمّة في تصيّد العثرات والهفواتِ والسَّقَطَات من غير عناية بمقاصد الألفاظ وإحسان الظنّ بقائلها، وهذا وأيم الله لهوَ طبع سيء، وخلق ليس بكريم، بل قد يكون فيه طبع من طباع أبشع المخلوقات وأنجسها، قال ابن القيّم -رحمه الله- "ومن الناس من طبعُه طبعُ خنزيرٍ، يمرّ بالطيّبات فلا يَلْوي عليها، فإذا قام الإنسانُ من رجيعهِ قَمَّهُ، وهكذا كثير من النّاس يسمعُ منك ويرى من المحاسن أضعافَ المساوئِ فلا يحفَظُها، ولا يَنْقُلُهَا، ولا تُنَاسِبُهُ، فإذا رأى سَقْطَةً، أو كَلِمَةً عَوْرَاءَ، وجد بُغيتَهُ وما يُناسبُها، فجعلها فَاكِهَتَهُ وَنُقْلَهُ" 26 – (مدارج السالكين) لابن القيم.
 
والعجب كل العجب ممن يدعي متابعة أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت ينسى أنه قد قال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"، والحديث رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه أحمد وأبو داود عن أبي برزة، ورواه أهل السنن عن البراء رضي الله عنه، فهو حديث مشهور في كتب السنة.

    
والحديث لمن تفكر به عظيم، فشتان بين من يتتبع عورته ويتصيد كلماته وعباراته بشر من البشر، وبين من يتتبع الله عز وجل عورته. فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والبشر قد يتزين لهم في لحن القول، وليس من خلق الداعية إلى الله تعالى الذي وصفه بقوله "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا" أن يكون همه تتبع الثغرات والزلات ونشرها في كل واد ومنتدى، يقول ابن المبارك رحمه الله "المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات"
  

المسلم يرى فيه أخوه المسلمُ الوجهَ الطيبَ المشرق من الصواب، كما يرى فيه الخطأ أو النقص والجانب السلبي

إن تصيد الأخطاء وخاصة بين الدعاة إلى الله تعالى منهج والعياذ بالله ابتلى الله به بعض الناس من الذين لا هم لهم ولا عمل سوى تصنيف الناس والبحث عن زلاتهم وأخطائهم،  ومعلوم أن كل من يعمل يخطئ ويقع منه هنات، ولكن من لا يعمل لا يخطئ مطلقا، قال الإمام الشعبي: لو أصبت تسعا وتسعين، وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين.

   
وفي تصيد الأخطاء والزلات لذاتها لا للإصلاح طريق ينبئ عن قلة دين وفساد قصد وسوء طوية والعياذ بالله، قال ابن القيم رحمه الله: «ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسان، حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يزل منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول.
      
وقد يقول قائل إن الداعية الفلاني قد أعلن خطأه على رؤوس الأشهاد، فحري بنا أن نرد عليه خطأه ونبين الله ليحذر الناس قوله ويعرفوا الحق من الباطل والسنة من البدعة، وهو لعمري كلام جميل، فنحن جميعا على علم أن من يعمل في الدعوة إلى الله تعالى معرض للخطأ والزلل، والواجب على الدعاة إلى الله تعالى الحرص على قبول النصيحة فيما بينهم وإصلاح الخطأ إن صدر من أحد منهم ،وعلى الناصح أن يكون رفيقا مع أخيه، همه أن يرجع إلى جادة الصواب، وعلى المنصوح قبول النصيحة، وألا تأخذه العزة بالإثم، وعليه ألا يلتفت إلى حديث الناس في المجالس والمنتديات ووسائل التواصل.

  

فهؤلاء شبههم شيخ الإسلام بالذباب يقول رحمه الله "إن بعض الناس لا تراه إلا منتقدا داء، ينسى حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم فهو مثل الذباب يترك مواضع البرد والسلامة، ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج".

  
ولنتذكر حديث نبينا الذي رواه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة: "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ". وقد صحّحه الصنعاني، وحسّنه الألباني وغيره، فالتعبير بالمرآة هنا بليغ، فأنت ترى فيها صورتك على حقيقتها بدون تعديل، وهكذا المسلم يرى فيه أخوه المسلمُ الوجهَ الطيبَ المشرق من الصواب، كما يرى فيه الخطأ أو النقص والجانب السلبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.