شعار قسم مدونات

إلى عائلتي التي حملتني في قلبها..

مدونات - عائلة
إن أغلب الناس لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم اتجاه أحبائهم أو أقاربهم. وبالكاد يظهرونها بين الفينة والأخرى في مناسبة ما. ومن الجميل جدا أن تجد أشخاصا يهتمون بكل تفاصيل حياتك حتى أنهم يدعون لك في سجودهم وركوعهم وبعد كل آذان صلاة. لن أنسى أبدا دعاء أمي وأبي لي أنا وإخوتي عندما نكون في أمس الحاجة لشيء ما فهما دائما ما يتخذان ركن صالون بيتنا كمكان لقيام الليل، يناجيان الله ويدعوان لنا بالتوفيق والنجاح. دائما نلجأ لأبي لكي يصلي عنا صلاة الاستخارة في بعض الامور المستعجلة التي نحتاج معرفة ما إذا كانت خيرا لنا أم لا . فنحن نثق بقراراته وأحاسيسه أكثر من خاصتنا. لطالما أحسست بحب وحنان عائلتي اتجاهي حتى لو لم يتوجا بتعبير شفوي دائما، ولطالما مدحت أمي باهتمام أخي الأكبر بي؛ وكيف كان يجول بي أرجاء البيت حتى يهدّأ من نوبات بكائي.

 

أما الآن فهو داعمي النفسي الذي ينصحني لكي اتقدم ولا أستسلم بل لكي أستمر وأثابر مهما كانت الظروف، فهو إنسان مسالم يأخذ الحياة ببساطة كبيرة. أحب طيبوبته وتفهمه. بينما أستمد شغفي من أخي الآخر، أتذكر جيدا أننا كنا لا نتفارق أبدا وربما قضيت أكثر وقتي معه فهو يعتبر صديق طفولتي، وقد أحسست حقا أنه أكثر شخص تأثر من فاجعة نقطتي بالباكالوريا، فهو من شجعني أن أجرب شعبة العلوم الرياضية التي كانت تلك السنة أول تجربة في ثانوية مدينتنا. بعد ذلك لاحظت كيف كان يهتم بمسيرتي الدراسية يحاول بشتى الطرق أن ألج مدرسة أو تخصصا لائقا بي وبعد كل المحاولات وكل المعاناة التي عشتها وأنا أحاول تدارك لعنة تلك الميزة التي أودت بي إلى كلية الاقتصاد تمكنت بفضل الله ودعم عائلتي من الالتحاق بجامعة بالخارج. مهما تناثرت عبارات الشكر والحب من فمي فأنا لا أستطيع أن أوفي أخي حقه، دعمه أو اهتمامه، لا أدري حقا ماذا كنت سأفعل لو لم يكن بجانبي خلال بدايتي بالغربة.

 

كم تمنيت يومها أن أفدي دموع أبي الغالية بروحي حين خانته عواطفه الحنونة وتسابق الدمع على وجنيته ليعلن انتهاء صبر قد أذبته ببكائي

أستطيع الجزم أن ارتباطنا ببعض كان نتيجة تربية والدي، فقد اعتدنا على نصائحهما التي تدعونا أن نكون كالبنيان المرصوص نسد ثغرات بعضنا البعض ونتقاسم الفرح والقرح لذلك لا توجد أية كلمة أو أي تعبير يصف ألطف وأحن خلق الله، أمي وأبي جوهرة المنزل ونوره. أستهل وصفي برجل البيت الذي غزى الشيب تضاريس رأسه وفاضت ملامحه تجاعيدا في سبيل شبابنا نحن، ذلك الأب الهادئ والحنون الذي يصاحب أبناءه، لقد كان دائما صديقا وفيا لي ولإخوتي صادقا، مؤمنا ومتسامحا إلى أقصى الحدود فأخلاقه وطيبوبته تغدو أن تقترب من الكمال. لا يصدر صوتا ولا يسمع منه أنين حتى حين يسحق حقه أو يظلم تراه يردد " إذا كان رب العالمين غفور رحيم إذن من أنا في خلق الله كي لا أتجاوز عن الناس زلاتهم" يتحلى بصبر كبير مهما كانت مشاكله فهو يؤمن بأنها خير وامتحان من الله يختبر عبده بها. ويشرفني حقا أن يكون أبي مثلي الأعلى وقدوتي في هاته الحياة الفانية فهو رجل متدين يشهد له بها كل معارفه، لاتفوته صلاة الفجر ولا صلاة المسجد مهما كان متعبا.

 

علمنا معنى ضبط النفس عن شهوات الدنيا وأن لا نرضخ لكل ما تأمرنا به، كانت ولا زالت وصايته الأولى لي" حافظي على صلاتك يا صغيرتي فهي تزكية للنفس وحل لكل مشاكلك" . في السنة الماضية نالت مني نزلة البرد وأصبت بسعال حاد حرمني من النوم وحرّم على أهل بيتي ذوي النوم الخفيف الراحة الليلية لذلك فقد ارتأيت ان اعتذر منهم ومن أبي بشكل خاص؛ لأنه كان مريضا في تلك الفترة؛ عن الازعاج غير المتعمد الذي سببته ليجيبني بكل حنان وتفهم " بالعكس تماما كلما أسمع سعالك بالليل أتألم جدا لألمك وأحزن لأنك لا تنامين بشكل جيد" لا يكتفي أبي أبدا بهذا القدر من الحنان والحب فهو السند الذي تجده عندما لا يحتمل كاهلك الثقل وهو اليد التي تعطي ولا تمن او تكل، أبي هو ذلك الرجل الذي لا تختفي ابتسامته او يفور دمه حتى وإن أعاد كتابة وثائقي الإدارية أو المدرسية عشرات المرات، بل لا يغضب من انتظاري يوما كاملا أمام باب الجامعة أحاول أخذ وثائقي وبيان نقطي الذي لم يجهز بعد ونعود في اليوم التالي والموالي والذي بعده بدون نتيجة ورغم ذلك لا أسمع منه أية كلمة عتاب . إن أقسى الآلام التي قد تعتصر قلب الإنسان هي علة أحد والديه، ذلك الشعور الذي يبكيك دون مواربة، بل يفجر كبدك وقلبك داخل أحشائك لتفيض عيناك دمعا.

 

أمي سيدة محبة للخير وذات قلب لا ينتظر مقابلا يكفيها أن تقابل عطاءها بكلمة طيبة وابتسامة من الفؤاد، حتى أنها تقابل أذية الناس لها بالخير لكن إن حدث ولاحظت حب شخص ما لها تغدقه عطاء

وقد جربت هذا الإحساس القاسي عند مرض أمي وأبي، كم تمنيت يومها أن أفدي دموع أبي الغالية بروحي حين خانته عواطفه الحنونة وتسابق الدمع على وجنيته ليعلن انتهاء صبر قد أذبته ببكائي خوفا عليه مما قد يؤذيه. سألته يومها ما الذي يبكيك يا أبتاه ليجيبني محاولا إخفاء تلؤلؤ عبراته داخل مقلتيه: "لقد أبكاني بكاؤك وخوفك". أتمنى في كل مرة أرى فيها أحدهما سقيما أن أكون مكانه وأحمل عنه الألم والمرض، المهم أن يكونا على ما يرام فأنا لا أتحمل دموعهما أو حزنهما أبدا.

 

يقال أن الأزواج يكتبون لبعضهم البعض في السماء قبل الارض وأنهما يكملان بعضهما البعض ويتشابهان في الطيبوبة وأغلب التفاصيل وربما أن هذا ما أكد لي الانسجام والتكامل بين أبي وأمي التي لطالما أغرقت البيت كله حنانا ورأفة، سيدة بيت جعلت زوجها وأبنائها أول أولوياتها، لم يكفيها أبدا أنها قبل كل خطوة تتخذها لابد لها أن تدرس نتائجها على اقتصاد البيت وأن لا تكلف أبي ما لا طاقة له به بل إنها مستعدة أشد الاستعداد أن تحفر بئرا بأظافرها إن كان فيه الخير لنا، لم تتذمر قط من أنها لا تعيش في البذخ كما هو حال أغلب السيدات اللواتي جئن من مستواها الاجتماعي، تعايشت وتأقلمت مع مستوى موظف بسيط وفرحت كلما ساهمت في تطور ما، ربما هذه هي العلاقة التي يحلم بها أي شخص في العالم أن يجد نصفه الثاني ويبني معه بيتا من دون مصالح أو طمع في ما يملكه الطرف الآخر.

 

إن أمي هي فانوس البيت ومدفأته في كل فصول السنة، هي ركيزة المنزل والسند الذي لا يتعب من حمل الثقل ولا يمل من الاستماع إلى تذمراتنا، ففي كل لحظات ضعفنا نجد تلك اليد الوفية التي تمسح على رأسنا وتواسينا وتوقف عبراتنا عن الهطول، أمي لا تنسانا أبدا من الدعاء في سجودها وقيامها وصيامها وسفرها، تقتسم معنا كل حالاتنا تفرح لفرحنا وتبكي لبكائنا وتتألم لمرضنا وتسهر من أجل راحتنا، تغرقنا عطفا ورحمة ونحن لم نوفيها بعد حق ألم الولادة ولا صبر الحمل ورضاعة الحولين الكاملين.

أمي سيدة محبة للخير وذات قلب لا ينتظر مقابلا يكفيها أن تقابل عطاءها بكلمة طيبة وابتسامة من الفؤاد، حتى أنها تقابل أذية الناس لها بالخير لكن إن حدث ولاحظت حب شخص ما لها تغدقه عطاء كما لو كان قطعة منها، حتى وإن لم تجد ما تعطيه تمنحه دعاءها ولطفها، في لحظات وهن أمي التي تلقت فيها خبر مرضها وتلوث دمها، انقلبت حياتي رأسا على عقب وتبادلنا الأدوار فقد أصبحت كما لو أنني أنا الأم التي لا تسكت من همس الدعاء في كل لحظة بل أصبح دعاء سجودي وركوعي كله شفاء أمي وطول عمرها هي وأبي، لا زلنا الى حد اليوم ننتظر نتيجة تحاليل دمها كما لو أنها نتائج امتحان الدكتوراه، كيف لا وهي منبع السعادة في البيت وسبب الابتسامة ومصدر الدعم، وهي من ربت رجلين مثقفين يعتمد عليهما وسيدة صغيرة استمدت منها صفات الحب والحنان والأخلاق بل سهرت على أن نكون من الذرية الصالحة التي لا تهزها رياح أو عواصف. وأنا الان ألتمس العذر والسماح من أحبتي خوفا من خيانة الكلمات والعبارات التي لطالما لم تجد طريقها إليهم لتوصل لهم مشاعري وكل حبي واحترامي. وأسأل الله أن يكونوا دائما بخير وأن تكون حياتهم كلها حبا ونجاحا، وأن يحفظهم الله من كل شر ويعافيهم من كل سقم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.