شعار قسم مدونات

الوجهُ الآخرُ لليتم

مدونات - طفل

إلى أولئك الذين لم تُنصفهم كلمات.. ولا مقالات.. أولئك الذين لم ينصُر دمعهم ولا قهرهم كلمة.. إلى الذين قال فيهم أحمد شوقي "ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلا إنّ اليتيم هو الذي تلْقى لهُ أمّا تخلّت أو أبا مشغُولا".. إلى الذين يعرفُون حقيقة اليُتم وأعمق معانيه.. إلى الذين تبدُ أمنياتهم محضُ صرخة يقولون فيها "ونحن من يفتي فينا؟"… لِمَ يكتُبُ الجميع دائما عن عُقوق الأبناء.. ولا يذكُرُ الدّعاة إلا سخَط اللّه على الذين يعُقُّون آبائهم؟؟ لم يُدوّنُ الجميع ويبهرون القارئ بكلماتهم عن هوْلِ جهنّم التّي ستحرِق جُلُود العاقّين من الأبناء؟؟ لِمَ تُسردُ النّصُوص دائما عن حقُوق الآباء؟؟ ماذا عن حقوق الأبناء؟ ماذا عن احتياجاتهم؟ عن تربيتهم؟ عن أخلاقهم؟ عن دينهم؟ هل عرف الآباء حجم الأمانة وقيمتها؟

  
قد لا يُخيَّل لأحدهم من أولئك الذين أخذوا الحظّ الأوْفر من عطاء الوالدين واحتوائهم وحسن تربيتهم على أسس الأخلاق والدّين أنّ هنالك غيرهم لم يحضوا بعناق واحد من آبائهم طيلة سنوات حياتهم.. لم يحضوا بقبلة ولا بكلمة طيبة.. ولا بمسحة حانية على قلوبهم لتخفيف وحشيّة الحياة عنهم.. لم يحضوا بعطاء معنويّ ولا بعطاء ماديّ كما أمر الله بالمعروف.. بل حتّى لم يحضوا بذاك السّلام الدّاخليّ الذي قد تحققه النفس البشرية في حال لم تتجرّع الأذيّة النفسية مثلما لم تنل المقدار الكافي من الحبّ.. وهذا ليس أبدًا من محضِ الخيال إذ أنّ ما يقترفُهُ بعضُ الآباء مع أبنائهم فاقَ ما يُمكنُ أن يتخيّلُهُ العقلُ البشريّ.. أولئك الذين يُبدِعون في تحطيم الأمانة التّي اؤتُمِنُوا عليها فيكُونُ دورُهُم الأوّل في البيتِ هو تعنيفُ الأمّ وكسرُها وتحطيمها.. المدرسةُ الأولى والمُعلّمةُ الأقرب والقُدوةُ الأفضل.. ثُمّ يطلُبون دون استحياء من كُتلة الحُطام أن تُربّي أبنائهم على الوجه الصّحيح دينيّا وأخلاقيّا واجتماعيّا ونفسيّا وإنسانيّا.. بل ويقعُ اتّهامها بالفشل كأمّ.. بينما في الحقيقة هذه الأمّ التّي هُشِّمَت نفسُها وتلاشت جرّاء جورِ الزّوج لن تستطيع مهما حاولت أن تنقذ ما أفسدهُ ذاك الذّي يُطلقُ عليه لقب "أب" دون استحقاقِ "اللّقب"..
 

إلى الذين يُفكّرون بالزّواج أو المُقبلين عليه.. أرجُوك اسأل نفسك هل لديك جهازُ الزّواج؟ طبعا لا أقصِدُ البيت والأثاث.. ولكن هل جهّزت نفسك؟ هل جهّزت دينٍا؟ هل جهّزت أخلاقا؟؟

لقد شاهدتُ بأُمِّ عيني آباء يحتقِرون أبنائهم وينعتُونهُم بأبشع الألفاظ منذُ نُعومة أظافرهم ويضرِبُونهُم ضربًا مُبرَحًا قاتلاً.. عُنفٌ لفظيّ وآخرُ جسديّ وقد يبرأُ الثّاني وقد يأخُذُ الأوّلُ زمنًا حتّى يبرأ.. بينما ترى هذا الظالم بَاسِمَ الوجْهِ أمام الغريب منْطلق اللّسان بأجمل الكلمات "أسدٌ عليّ وفي الحُرُوبِ نعامةٌ فَتْخَاءُ تنْفِرُ من صفيرِ الصّافرِ".. فترى الواحد من الأبناء يَعيشُ في رُعبٍ دائمٍ واضطرابٍ نفسيٍّ مُريب وبِنفسٍ مهزُوزةٍ تعجزُ أن تُواجه وحشيّةَ النّفُوسِ خارج الإطارِ العائليّ لأنّها في الأصل مُرهقةٌ من محاربةِ الوُحُوشِ بالدّاخل فتشعر أنّها تفرّ من الملاذِ الذّي من المفروضِ أن تهرع إليه من هول ما يحدثُ بالخارج.. فإن لم تكُن العائلة هي المأمنُ والمسكنُ والملجأ الهادئ الموثُوقُ فيه الذّي يحتوي أحزان الإنسان وتعبَهُ ومُكابدتهُ لهذه الحياة فإلى من سيلجأ بعد الله؟؟
   
اليتيمُ الذّي فقدَ والديهِ بموتِهِما لرُبّما في بداخله يحتفِظُ بصورة مميّزةٍ لهما أو لأحدهما إن كان قد فقد أحد أبويه.. ويسكُنانِ بداخِلِهِ كذكْرَى عميقةِ الجمال وتكُونُ أكبرُ أمنياته أن يعيشَ بينهُما ويُشارِكهُما تفاصيل حياته أفراحها وأتراحها. نعم.. قد يذرِفُ دُمُوع الحُزن وهو يذكُرُهُما ولكنّهُ في النّهاية سيبتسمُ منتظرًا اللّقاء الأبديّ حيثُ لا فراق.. أمّا أن يشعُرُ الإنسان باليُتم في حياة والديه ويكون وجودهما من عدمه واحد مع تحمّل جميع أنواع التّعذيب النّفسيّ فذلك هو الوجْهُ السّمجُ لليُتْم..

 

مشهدٌ على عتباتِ القسوة وبين ثَنايا الموت يُذكّرني بتلك المشاهد التّي نراها حين تندَلِعُ الحرب تلك التّي يُقتلُ فيها الأبرياء من أطفال وأمّهات من جرّاء القصفِ المُريبِ للمدنيّين فتَرَى الأمّ فَارّةً لتختبئ بين جُدرانٍ قاب قوسين أو أدنى من الانهيار مُحتضِنةً أطفالها خوفًا عليهم من الهلاكِ مع أنّها تعلمُ يقينًا أنّ الجُدران غير آمِنةٍ للاستِنادِ عليها وأنّ المخبأ يُحيطُهُ الدّمار وأنّ لحظات الموت طويلةٌ على قِصرِها وأنّ الموت يُحيطُ بها وبأبنائها من كُلّ جانب وهي تحت تهدِيده في كلّ لحظة.. صدّقُوني الجريمةُ واحدة وإن اختلف السّلاح والقاتِلُ واحد وإن اختلفت الغاية.. لكنّ الضّمير الآثم لا يحتاجُ لإصبع اتهام بالنّهاية والقُلوبُ التّي تغذّت على الشّرّ لا تحتاجُ إلى ماكينات تنظيف.. ومن لمْ يتَجرّع مرارة ما كُتب أعلاه ولم يُحاول على الأقلّ فهْمَه فلْيَتَوقّف عن التَّشدُّقِ والتّنظير وإلقاء المواعظ على المظلومين وترك الظالم يرتَعُ فوق أشلائه مُطلِقًا وقَاحَة لِسانِه مُطالبًا بالحُبّ الذّي لا يعرفُه لأنّ الذي زرع الأشواك فعليه أن ينتظر موسم جني الجراح فالوُرُود التّي تُسقى بالعَلْقَم لنْ تُنتج لك عبيرًا..

   undefined
 

لِكلّ من يقرأُ مقالي هذا يشهدُ اللّه أنّي لا أدعو فيه للإساءة للوالدين بأيّ نوع من أنواع الإساءة ولا لردّ فعلٍ يُمكنُ أن يكونَ من العقُوقِ في شيء ولكنّي أُوجّهُ ثلاثة نداءات لثلاثِ أطرافٍ أحسبُهُم معنيّين بالأمر.. الأوّل لكلّ أمّ أو أبٍ عَقَّ أبناءه ورأى نفسهُ في هذه الكلمات أن يتُوب عن ذنب الإفساد في نُفوسِ أبنائه التّي أمّنه اللّه عليها وألّا تأخُذهُ العِزّةُ بالإثم وألّا يظنّ أنّهُ لن يُحاسب على ما اؤتُمِنَ عليه وأن يختَار طريقَ التّوْبةِ أو طريق الهَجْر.. أمْسِك بمعروف أو سرِّح بمعروف ولا تُمسِك ضرارًا لتعتدي..

 
أمّا النداء الثّاني فهو لكُلّ من يحسبُ نفسهُ داعيًا للخير وللّه وللإصلاح وللإنسانيّة من الدّعاة أو الفُقهاء أو أصحاب العلم أو الأخصّائيين النفسيّين أو الاجتماعيّين.. لكُلّ من يحمِلُ لسان قلم صادق أو لسان قلبٍ حيّ أن يُوجّه نداء وطرحًا صادقا جدّيّا لقضيّة ظُلم الآباء لأبنائهم وأثر هذا الظّلم على أمّة بأكملها..
 

أمّا النّداء الثالث والأخير فأُوجّهه إلى الذين يُفكّرون بالزّواج أو المُقبلين عليه.. أرجُوك اسأل نفسك هل لديك جهازُ الزّواج؟ طبعا لا أقصِدُ البيت والأثاث.. ولكن هل جهّزت نفسك؟ هل جهّزت دينٍا؟ هل جهّزت أخلاقا؟؟ هل جهّزت نفسا طيّبة مسؤولة تعرفُ معنى المودّة والرّحمة والسّكن؟ هل لديك رأسُ المال هذا؟؟ يا أخي كُنْ رجُلا.. كُنْ رجُلا لا محْضَ ذكر.. يا أُختي كوني امرأة لا محض أنثى..
 

وأنتُم أيُها الأبناء المُتضرّرون اصْبِرُوا ثُمّ اصبِرُوا ثُمّ اصطبروا وأحسِنُوا لوالدِيكُم رُغم ظُلمِهم.. لا تفعلُوا هذا حُبّا إن لم تستطيعوا ولكن افعلوه إحْسَانَا لأنّ الله يُحبُّ المُحسن.. افعلُوهُ للّه لأنّنا لا نُقدّمُ أعمالنا قُربانًا للحياة الدّنيا ولكن طمعًا في الحياة الآخرة.. وأنجِبُوا من رحِمِ مِحَنِكُم منحة واعتبِرُوا ممّا قاسيتُمُوه لتكُونوا أفضل.. كُونُوا من أولئك الذين يُعطُون ما يفتقِدُونه بسخَاء.. لا تملأُوا قُلُوبكُم بالغِلّ فإنّ الغِلّ للقلب قَاتِلُهُ ومُعْدِمُه ولكن اتّبِعُوا "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"..

 
لا تَبْحَث عن مُبرّر واحد لِتَكُون سيّئا ولكن اجعل لك ألف مُبرّرٍ لتَكُون طيّبا.. بلْ واجعل ألمك أكبر مُبرّر للحبّ والخير ودعْ لَكَ من الطّيبِ أثَرًا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.