شعار قسم مدونات

حين تصبح الحقوق أداة للقمع!

blogs قيود
في أوطان وبلاد الدكتاتوريات والطواغيت، تتغير النظرة الإنسانية الفطريّة إلى الأشياء وطبيعة ما تبدو عليه، فيصبح وجود شيءٍ بسيطٍ من الحقوق منّة ومفخرةً لهذا الحاكم أو ذاك على الناس، وغافرًا لزلاّته أمامهم. في هذا الوطن، تُمسح من عقول الجيل مطالبهم وحقوقهم وحرياتهم التي نصّت عليها شريعة الله ومواثيق ومعاهدات الدول. في هكذا بلاد، تُخبتُ وتدجّن عقول الكبار على أنّ هذا الحاكم هو خير ما خلق الله لهكذا منصب، وأنّ همّه الأول والأخير هو الوطن وخدمة الناس، وفي المقابل تترعرع عقول الصغار على أنّ من واجبهم أن يكون أرجل كراسي يحرّكهم هذا الحاكم كيف يشاء! أو قطعًا من الشطرنج بين يديه، فهو أدرى بأي المربعات الملونة الخير.

 

ويبدأ هذا الطفل الصغير بتلقي ترّهات الكِبار: ليس ذلك استعبادًا لك يا صغيري! فنحن نرفض هذا لك، ولكن لأنك جاهلٌ لا تعرف مصلحتك ومآلات الأمور، لذلك هذا القائد العظيم المغوار يعرفها أكثر منك وسيقرر بدلًا منك ما هو المناسب لك ولكافة المواطنين.

 

في هذا الوطن، وبعد أن دُجّنت عقول الكبار، وترعرعت عقول الصغار على الذل، تُصبح النظرة لكل ما هو مخالف وخارج عن النمط العام نظرة استغراب! ونظرة تخوين في أحيانٍ كثيرة. كيف لهذا الشاب أن يصدح بصوته في هذا المجتمع مطالبًا بمحاسبة ذلك الفاسد، وتلك المرتشية! كيف يجرؤ، إن هؤلاء المسؤولين هم رُسُل سيّدنا وقائدنا، كيف يجرؤ على الانتقاص من قدرهم، فالتهجّم عليهم هو من التهجّم على سيادته. وتبدأ أصواتهم تتوارد إلى مسمعه تِباعًا: إنّك خائن، ومدفوعٌ بأجنداتٍ خارجية، إنك تريد زعزعة الأمن والأمان في هذا الوطن، لا شكّ أنك تقبض ثمن ذلك، يا لك من عميل وجاسوس حقير! اقتلوه او اطرحوه أرضًا، يخلُ لكم وجه زعيمكم، إنّه من المتطهرين.

 

في هذا الوطن، يحرص هذا الطاغية على خلق بعبعٍ يخيف الناس منه، ويرمي به كلّ معارضٍ له، فتصبح بعض الكلمات حين تُقال لفلان، مبرّرًا للسجن والقتل والإبعاد

انظر أيها المغفل المطالب بالحقّ، انظر للبلد الفلاني، ألم ترى الخراب والدمار وما حلّ بها؟ لقد جرى كلّ ذلك لهم بسبب ترديدهم كلامًا مثل كلامك، اذهب إلى بيتك ونم جيّدًا، ولا تنسى أن تحلم بنِعم مولانا وقائدنا من الأمن والأمان والحقوق التي تنالها هنا، فإن لم تسكت وتخرس عن قولك، لنكونّن من المنتقمين المخوّنين.

في هذا الوطن، يرون هذا العميل المندس بنظرهم قد هتف وصدح بكلماتٍ جديدةٍ على قواميسهم الضحلة، فكلمات مثل: الحرية، عدالة اجتماعية، محاسبة الفاسدين ومكافحتهم، انتخابات معبّرة عن نبض الشارع، وغيرها من الكلمات، كلّها جديدةٌ عليهم، ولم يسمعوها، والذين سمعوها ورأوا سكان البلاد الأخرى يرددونها، ينظرون اليها على أنّها المؤامرة الكونية على بلدهم، نعم! إن هكذا كلمات لا تصدر سوى عن مأجورٍ قبل على نفسه خدمة الأجنبي وباع بلده وأهلها. في هذا الوطن، عندما يتفضّل ذلك الحاكم بإعطاء الناس فتات الحقوق، يمنّ عليهم بذلك، ويخرج "المواطنون الشرفاء" ليسبحوا بحمده، شكرًا لك سيّدنا، أنت عظيم، أنت خليفة الله على الأرض، لولاك لضاع الوطن.

في هذا الوطن، إن ظهر للناس بجلاءٍ خطأ هذا الحاكم في قراراته، يكون لديه صكوك غفرانٍ أمام الناس، تلك الصكوك ما هي إلا النذر اليسير من حقوق البشر، فتبدأ الأصوات المتملّقة بالهتاف: أليس هو من أسقانا من بعد العطش؟ أليس هو من أطعمنا من بعد الجوع؟ أليس هو من يحارب "الارهاب" لننعم بالأمن؟ يا لكم من جاحدين، إنّه يكدّ ويتعب لأجلنا، وأنتم أيها المنتقدون مستريحون في بيوتكم غير مدركين للمخاطر التي واجهته، إنّ هذه القرارات لحاكمنا الموقّر تدل على الحنكة السياسية لديه، إنّه يقرّر أمورًا لا نفهمها نحن العاديون، إنّ كلامه نخبويٌّ ونحن جاهلون بمصالحنا، حفظك الله لنا أيها القائد المغوار العنيد الأسطورة.

في هذا الوطن، يحرص هذا الطاغية على خلق بعبعٍ يخيف الناس منه، ويرمي به كلّ معارضٍ له، فتصبح بعض الكلمات حين تُقال لفلان، مبرّرًا للسجن والقتل والإبعاد بحق هذا المواطن دون التثبت من شيء، فنرى بعبع الإخوان في بلادنا مثلًا، ونرى بعبع المؤامرة الكونية، ونرى بعبع داعش والتشدد والإرهاب، وغيرها من الفزّاعات التي تستخدم للتخلص من كل معارضٍ وصادحٍ ومطالبٍ بحقّه وحقّ المظلومين.

لا يعير هذا الإعلام نظرة المنطق والعقل له، حيث يمارس استغفال الناس والاستغباء بحقّهم، فأنتم أيها المواطنون لا ترون ولا تفهمون
لا يعير هذا الإعلام نظرة المنطق والعقل له، حيث يمارس استغفال الناس والاستغباء بحقّهم، فأنتم أيها المواطنون لا ترون ولا تفهمون
 

في هذا الوطن، تتغيّر نظرات وتوجّهات الإعلام كدرجات الحرارة والرطوبة وسرعة واتجاه الرياح، فنرى هذا الإعلامي يهاجم تلك البلد، لأنه حاكمه اختلف مع رئيس تلك البلد، فتنهال عليها السباب والشتائم من الاعلام الوطني. وعندما تعود الأمور لمجاريها وتتفق وتتوحد المصالح مجدّدًا؛ نرى هذا الإعلامي يستذكر التاريخ العريق بين البلدين، والعلاقات الوطيدة بين سكان البلدين.

 

هكذا بُرمج ولُقّن، ما هو إلا صدى ومكبر صوت لتوجّهات حاكمه وزعيمه المبجّل، ولا يعير هذا الإعلام نظرة المنطق والعقل له، حيث يمارس استغفال الناس والاستغباء بحقّهم، فأنتم أيها المواطنون لا ترون ولا تفهمون، أنا أفكّر عنكم وأشرح لكم الصواب والحقّ، فأنتم في هذا الوطن ليس من حقّكم التفكير والنظر للأمور بأنفسكم لتصوغوا آرائكم وتعبروا عنها، فلا رأي هنا ولا قول إلا لجلالته وحده، ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا لسبل الخير والرشاد.

في هذا الوطن، يكون الظاهر عكس الباطن، ففي الظاهر يتغنّى المواطن بالإنجازات والبطولات لسيّده، وفي الباطن تُصبح النظرة شخصيّةً بامتياز، حيث تذوب معاني التضحية والوفاء عند الأفراد لوطنهم، فلماذا أضحّي في حين أن المستفيد هو فلان وعلّان من المسؤولين؟ لماذا أضحّي بعمري وجهودي في هكذا بلد؟ سأذهب لأبحث عن تذكرة سفرٍ تجعلني أعيش بين ظهراني أولئك الأجانب الذين يقوم مسؤولونا بإرسال أبنائهم ليدرسوا عندهم ويستمتعوا من أموالنا ومن حقوقنا. فكم من بلدٍ عربيٍ يمثّله هذا الوطن؟ وكم من مواطنٍ تسكن روحه قناعات وأفكار مواطني هذا الوطن؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.