شعار قسم مدونات

نظم "القوقعات" في الدول المؤقتة!

blogs - egyptFreedom

يتبيّن لنا، من خلال ملامسة الأزمة البنيويّة العميقة التي تمرّ بها الدول العربيّة عقب موجة الربيع العربي وعمليّات التجريف الممنهجة التي تستهدف بها القوى الاستعمارية نهضة الأمّة وتقدّمها، أنّ الأمر يتجاوز مجرّد عمليّة إجهاض لمشروع تحرّري من الداخل العربي ليقترن ببرنامج -معدّ مسبقا- للمرور إلى مرحلة جديدة من مراحل تفكيك المنجز الاستعماري القديم وإعادة صياغته بما يتناسب وأهداف النظام الكلياني الرأسمالي المعولم.
 
ففي خضمّ ما شهده العالم من تحوّلات جذريّة عبر موجة العولمة واستحقاقاتها في ما يتعلّق بإعادة ترتيب العلاقات الدوليّة وموازين القوى في العالم، يتّضح لنا أنّ مقصّ سايكس-بيكو الذي تقاسمت بموجبه فرنسا وبريطانيا المشرق العربي على أنقاض الدولة العثمانيّة أثناء الحرب العالميّة الأولى (الاتفاقية الفرنسيّة الإنجليزيّة المبرمة بلندن في 16 ماي 1916) قد استوفى أغراضه، وبات اليوم كلّ المجال العربي محلّ تنافس محموم بين القوى التقليديّة والناشئة في الإقليم والعالم. وانتشرت أشلاء الضحايا فوق خراب مدننا في الشام واليمن والعراق وليبيا، وأطبقت من جديد قوقعة العسكر المصري العملاقة على أنفاس شعب الكنانة. كلّ ذلك يتمّ تحت وطأة المقصّ العالمي الجديد الذي بدأ برسم خريطة مناطق النفوذ وتوزيع الثروات المنهوبة في المنطقة العربيّة بين أعضاد نادي الإجرام العالمي.
 

في الفترة التي تلت الثورة التونسيّة، وأثناء حكم الترويكا (أكتوبر 2011- أكتوبر 2014) تعجّب التونسيّون من انتشار لوبيات الفساد في مجالات المال والأعمال والإعلام والسياسة وتغوّلها على حساب قوى الربيع الحالم

في أكثر تفصيل للعوامل التي لا تزال تشكّل أهمّ الصعوبات التي تعترض سواء مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، أو أيّ محاولة تغيير في الواقع المتردّي للدول العربيّة عموما، جمهوريّات كانت أو ممالك، يهمّنا أن نذكر العاملين التاليين:
1- خلال العقود التي تلت خروج جيوش الاحتلال الغربي من بلداننا العربيّة، ورّثت القوى المستعمرة الدول العربيّة الناشئة أمرين مثّلا ركنين مؤسّسين لأنظمة الحكم وطبيعتها فيها: أوّلهما إرساء أنظمة حكم على قاعدة عصبيّات تتنوّع بين العشائري والطائفي والجهوي، وذلك حسب الخصوصيّة التاريخيّة لكلّ بلد، وأهمّية موقعه الجيوستراتيجي على خارطة النظام العالمي الجديد.

 

ثانيهما زرع قوقعات (Cookies) مبرمجة، تتحكّم فيها عن بعد مراكز للقيادة والتحكّم بالأقطاب الجيوسياسيّة والتكنولوجيّة الكبرى بأوروبا وأمريكا، وذلك لإدارة المجال العربي والتصرّف في موارده الماديّة والبشريّة. هذه الوضعيّة تشبه إلى حدّ بعيد منظومة شبكة الإنترنيت والقوقعات التي تُسكِنها المواقع المركزيّة للمعلومات أجهزة المستخدمين، إذ كلّما دعت الحاجة إلى ولوج الموزّع المركزي أجهزة الأشخاص العالقين في شبكته، إلاّ ونال مبتغاه دون علمهم، وكذلك هو الحال في مستوى الدول، إذ تتصرّف الدول الكبرى عبر قوقعاتها المزروعة في ما يسمّى بمناطق نفوذها وسيطرتها في العالم على ذلك النحو تجاه وكلائها المعتمدين في الدول العربيّة. فمن حيث المظهر الخارجي لا يرى المتابع للشأن الدولي من فروق كبيرة بين هياكل الدول المتقدّمة ومؤسّساتها ونظيراتها في الدول العربيّة، لكن في الواقع شتّان بين من يصنع البرمجيّات ومن يتلقّاها.. فالعقل المدبّر في الغرب، والقوقعات الفارغة تصطفّ عند العرب تنتظر الأمر اليومي.
 
2- بعد تواصل البناء الاستعماري داخل المجتمعات المستهدفة عبر وكلائها المحليّين بعيد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخاصّة مع انتهاء الحرب الباردة وتحطيم جدار برلين عام 1989، لم يعد للمستعمر من حاجة للدور التقليدي للوكيل في دول باتت حدودها الأولى وسياداتها المصطنعة محلّ تنافس جديد بين القوى الاقتصادية والعسكريّة المهيمنة في العالم. وظنّي أنّ العولمة الوافدة ونظام المحليّات المستحدثين للغرض سيغنيان عن الدور المكْلِف للوسيط ودولته المؤقّتة على المدى المنظور، وذلك من حيث تكفّلهما بذات الوظيفة متوّجة هذه المرّة بإرادة شعبيّة "حرّة"، وإيهام الشعوب بسيادتها على مجالها!

 

القضيّة تبقى ولا تزال قضيّة استقلال وتحرّر لشعوب العرب من الماء إلى الماء.. بداية الوعي بذلك هي بداية الانعتاق
القضيّة تبقى ولا تزال قضيّة استقلال وتحرّر لشعوب العرب من الماء إلى الماء.. بداية الوعي بذلك هي بداية الانعتاق
 

وللأسباب التي بوّبنا في النقطتين السابقتين، استعصت عمليّة التغيير على نخب الثورات العربيّة، فهي وإن لم يعد أمامها نظام هرمي فاسد -له رأس وقاعدة- لتواجهه، إلاّ أنّ مختلف القوى التي كان يستمدّ النظام منها سلطته أعادت انتشارها في المجال على شكل شبكات عنكبوتيّة تصل الداخل بالخارج، فعطّلت المسار الثوري، وفرضت بدعم خارجي مفضوح شروطها على المسار الانتقالي، لتصل في آخر المطاف -عبر صندوق الاقتراع- إلى سدّة الحكم كما هو الشأن في تونس (23 نوفمبر 2014)، أو تفرض سلطتها عبر براميل المتفجّرات والفوسفور الحارق كما هو الحال في سورية التي شهدت تدخّلا سافرا من أصحاب القوقعات الطائفيّة منها (الإيرانيّة) أو الاستعمارية (الروسيّة، الأمريكيّة، الإسرائيليّة). وهي في الأخير، وإن تعدّدت مراكز قوى الثورة المضادّة في الداخل وتنوّعت، حتما سنجد لها في نهاياتها رابطا واحدا يصبّ لصالح القوى التقليديّة المهيمنة في العالم.
 
في الفترة التي تلت الثورة التونسيّة، وأثناء حكم الترويكا (أكتوبر 2011- أكتوبر 2014) تعجّب التونسيّون من انتشار لوبيات الفساد في مجالات المال والأعمال والإعلام والسياسة وتغوّلها على حساب قوى الربيع الحالم، وكانت الفكرة السائدة بين القوى الثوريّة وأحزابها الوافدة في المشهد السياسي أنّ مقارعة ما سمّيناه "ثورة مضادّة" يتمّ عبر وسائل التغيير التقليديّة، على شكل ما يحصل في دول المركز الأوروبي، أي أحزاب وانتخابات وغير ذلك.. وغاب عنّا أنّ ذاك المركز قد نشر شباكه عبر عمليّة إفراق (Essaimage) ممنهجة لجوهر النظام ما -بعد- استعماري داخل النسيج المجتمعي والسياسي والاقتصادي للتربّص بتلك القوى الناشئة وقتل ربيعها الحالم..

 

فالقضيّة تبقى ولا تزال قضيّة استقلال وتحرّر لشعوب العرب من الماء إلى الماء.. بداية الوعي بذلك هي بداية الانعتاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.