شعار قسم مدونات

عن حكايات غزة المعلقة

مدونات - فلسطين غزة

أبريل يهم بالرحيل والسماء تمطر في غزة، الصباحات الماطرة كانت عادةً تتدثر بصوت فيروز الدافئ: "أنا عندي حنين، ما بعرف لمين" يا إلهي كم يستدعي هذا المزيج من ذكريات أهملت مرورها كل تلك السنوات! "أنا عندي حنين، وبعرف لمين!".

 

عندي حنين لأيام الحب الأحمق الذي كان يشتعل كعود ثقاب، ثم يخبو كأنه لم يكن، عندي حنين للأحاديث العشوائية والحكايات الصاخبة أثناء حفلات المبيت، للهتاف في المظاهرات والهرب من الرصاص وقنابل الغاز في الأزقة، لأيام الغناء الجماعي تحت معرش مدرسة بشير الريس، والفردي الهامس أثناء السير في الشارع النازف شوقاً من جامعة الأزهر للمركز البريطاني: "بكتب اسمك يا حبيبي عالحَور العتيق، بتكتب اسمي يا حبيبي عرمل الطريق".
   
عندي حنين للنظرات الحائرة التي لم تحظَ أبداً برد يشفي شوقها، لوقع خطوات القدمين اللتين تسارعان في الركض تحت المطر الهادر، متجاهلتين انشغال البال بالوجه الذي يضج بالتساؤلات وخيبة الأمل خلفهما، لحذر الأساتذة من الوقوع في حب الساحرات الصغيرات الشقيات، أو من أن يُفتضح أمر وقوعهم.

 

نداء نداء نداء.. إلى أهالي مدينة / قطاع غزة وكل من حذا حذوهم، كفوا عن انتظار النهاية، لا تستسلموا لليأس، لا تعلقوا في شباك الحكاية

عندي حنين لصباحات الشتاء التي تختفي فيها الوجوه وراء الكوفيات طلباً للدفء، فتخرج العيون عن صمتها، وتبدأ في إرسال رسائل العشق الذي يشتعل سراً خلفها، للحكايات التي لم تكتمل أبداً، وبقيت تبث عطرها في حدائق القلب، حتى بعد أن جف ماؤه؛ كم كنا سذجاً مترددين، وكم كان الزمن مخادعاً وحاسماً!

 
كيف لعشرين سنة أن تكون طويلةً هكذا حين نعيشها؟ وسريعة كالبرق حين تمر بالخاطر لدرجة أننا لا نصدق أنها مرت؟! عشرون سنة من الأحداث المهمة، عمل، زواج، أطفال، سباق لاهث مع الموت، اغتيالات، انقلابات، حصار، حروب، ثم أخيراً نظرة للمرآة لا تقل قسوة وزلزلة عن قنبلة ارتجاجية. "هذه عشرون سنة سُبيت ولم تمر! سُرقت من أعمارنا ومن تاريخ صمود غزة التي غدر بها لصوص الثورات السلمية العظيمة، وقتلة الأمل في الحرية، ومختطفو الكفاح المسلح". غزة؟! مهلاً لماذا نصر دائماً أن نحشر غزة بين كل كلمتين عن الحب والخيبة؟! لماذا تستبيح هذه المدينة مشاعرنا لتأخذ مكانها حتى حين نقف لنحاسب الزمن على ما فعل بنا؟

  

لماذا نصرُّ أن نربط حياتنا بحل عقدة غزة العقيمة؟ نتوقف عندها، نبكي عجزنا عن تخليصها، فيما نغرق نحن في رمال الانتظار المتحركة، أفهم أن يمنعنا الحصار من السفر أو الحصول على مزايا منح التعليم بالخارج، أو العلاج، لكن أنا أتكلم هنا عن أولئك الذين ليس لديهم خطط للسفر، وليسوا بحاجة له! أتكلم عن الذين فضلوا الانتظار على الحياة، وعلقوا حكاياتهم كلها على شماعته حتى جفت مع مرور رياح الوقت وبدأت تسقط وتتطاير.
 
كان من الممكن أن يموت أيٌ منا خلال الحروب الثلاثة التي مضت، أو لقدر الإصابة بمرض لا علاج له في غزة، أو بسبب حجر سقط سهواً من عامل بناء تعِب، أو حتى في فراش النوم، دون أن يحقق ذاته، ودون أن يعيش بهجات الحب مع أفراد عائلته وهم حوله، ودون أن يتنعم بوجود أب رائع وأم عظيمة أو ابن خفيف الظل أو ابنة مبدعة جميلة، كل النعم التي تحيطنا، حملناها وعلقناها على مشنقة الحصار الذي أحرقنا وكرهناها معه، مع أنها كانت في متناولنا.

  
undefined

 

دعوني أخبركم حكاية، حين كان النزق في ذروته، اختلف بعض الصبية الكبار، ماذا لو كانت غزة إلهة من آلهة اليونان فإلهة أي شيء ستكون؟ تقافزت الإجابات: الموت، الحزن، الدمار، الوحشة، خيبة الأمل، الصمود، العناد، الغباء، آخرهم وقف وقال بلا اهتمام: "البعث" وهم بالرحيل، فجذبه أحدهم:
– وهل ستكون جميلة؟

– ما أهمية ذلك ما دمت لا تملك رفض أن تموت من أجل أن تُبعث هي؟!
-لكن غزة ليست إلهة، ولن يفيدنا أن نتعبد لها بالانتظار، هي من يُبعث في النهاية من الرماد والدمار مدينةً لا نحن! غزة في الحقيقة لا تنتظر منا أن نهدر عمرنا في ترقُّب نهاية حكايتها الملحمية، التي قد لا تأتي أبداً خلال عمرنا القصير؛ فللمدن زمن حكايةٍ يختلف عن أزمنة حكايات البشر.

  
في الواقع هناك حياة لنعيشها حتى تحت الحصار، حياة بكل تفاصيلها؛ هناك كتب لم نقرأها ورفاق لم نلتقِ بهم، وركض حر على الشاطئ لم يشعل قلوبنا نبضاً، هناك أحاديث شيقة كثيرة لم نخضها مع أبنائنا وبناتنا، هناك حواديت غرائبية لم ننقلها لهم من أجدادنا، هناك مباريات كرة لم نلعبها معهم، هناك مشاعر ندخرها لبعضنا في قلوبنا حتى شاخت، وقاربت على الموت دون أن تصل، هناك شجارات كان علينا أن نقوم بها، لتنتهي بدمعة فرح وحب كان يختبئ خلف سلوكنا الاحتجاجي المستمر.

هناك لحظات حب ما تزال قلوبنا جديرة بها، هناك حكايات حب قديمة معلقة من الممكن أن تكتمل، بل إن هناك حكايات حب كبرت وتفتحت في غفلة منا، ورغم إنكارنا آن الأوان أن نفتح لها الأبواب ونحتفل.

 
لذا: نداء نداء نداء.. إلى أهالي مدينة / قطاع غزة وكل من حذا حذوهم، كفوا عن انتظار النهاية، لا تستسلموا لليأس، لا تعلقوا في شباك الحكاية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.