شعار قسم مدونات

موجة غزة الكبرى

مدونات - امرأة غزة
راكبو الأمواج في بحر السياسة يتعلمون بسرعة، حين لا يجدون موجة لركوبها يصنعون واحدة، وسواء صنعوها أو وجدوها جاهزة، فإن هوسهم باللعبة قد يجعلهم يخاطروا ويركبوا الموجة دون التأكد من وجهتها أو وجاهة المخاطرة بركوبها. من وراء الأسلاك الشائكة، تقف غزة لتتأمل بحر الشرق الأوسط الذي يبدو عاصفاً هذه الأيام، العراق المنهك، وسورية التي يترنح شعبها تحت ضربات جيش بلاده المعزز بدعم إيراني روسي، وبتواطؤ القوى العالمية العظمى الأخرى، التي تدَّعي معارضتها لممارساته غير الأخلاقية وتعاقبه بمهاجمة مواقعه بقصف لأهداف متفق عليها مسبقاً معه.

   
خليجياً المملكة العربية السعودية تعاني من موجة اضطرابات ما تحت الطاولة وفوق الشرعية، والتي على ما يبدو ستقودها إلى إعلان علمنة نظام الحكم في النهاية، وتتحالف هي والبحرين ومصر مع الإمارات العربية المتحدة، التي تعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة على إبقاء دوامات الصراع قائمة فوق أعمدة الفوضى في اليمن والعراق وليبيا وسورية، وتحاول جاهدةً إقصاء منافسيها -قطر وإيران وتركيا- عن موازين القوى الإقليمية، ومصادر الثروات الطبيعية الجديدة في المنطقة.

مصر في حالة انهيار اقتصادي وسياسي تحت سيطرة حكم عسكري مستبد، ولبنان يمشي على أطراف أصابعه، خوفاً من أن يدوس على لغم الطائفية فينفجر في وجهه مرة أخرى، والأردن حين فكر أن يتحرك خارج مربع "الاعتدال"، تململت في وجهه القوى المحركة للصراع محذِّرة.

 

موجة غزة الكبرى تفتح الباب للمخاوف من عودة الأمل للمحاصرين، من عودة ذاكرة الشعب الفلسطيني إليه، واستساغته حلاوة الكرامة والهدف السامي

أصبحت غزة تعرف أن حصارها جزءً من لعبة كبيرة، لا تعدو هي أن تكون حجراً صغيراً على رقعتها، فمنذ انطلاق شرارة الحرب الثانية على العراق، بدأ إعصار "الفوضى الخلَّاقة" يضرب المنطقة بلا هوادة، وجاءت عواصف الربيع العربي لتتحد معه وتقويه، لتمهد أرض الواقع لسايكس بيكو جديدة تضع حدوداً جديدةً، وتدخل الانقسامات العرقية والمذهبية كعامل أساسي في تشكيل وجه الشرق الأوسط الجديد، فتبقي المنطقة عرضة لجولات الصراع العقائدي والإثني الدامي، وتضع حداً نهائياً لاحتمالات قيام اتحادات قومية قد تهدد مصالح الغرب الإستراتيجية.

وسط كل هذا الصخب، لم يعد لهبات انتفاضات ومذابح الفلسطينيين صوت، وبدأت جهود أجهزة الأمن الإسرائيلية في تهيئة الأجواء للاقتتال الفلسطيني الداخلي تنجح وتثمر إلى أن توَّجها الفلسطينيون بانقسامهم سياسياً وجغرافياً في العام 2007، فأصبحت الضفة تحت حكم السلطة الفلسطينية وفتح ممثلة بالرئيس المنتخب عام 2005، وغزة تحت حكم حماس، التي تستمد شرعيتها من الحكومة شكلتها بعد فوز كتلتها في الانتخابات التشريعية عام 2006، مما أتاح لإسرائيل حرية أكبر في استهداف بؤر المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، والبنى التحتية لها في قطاع غزة.

 
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد من الانحدار، فقد سمحت قيادات السلطتين في الضفة الغربية وغزة للدول العربية والإقليمية ذات المصالح المتعارضة بالتناوش عبرها، حيث دعمت قطر وإيران وتركيا حكومة الأمر الواقع في غزة، ودعمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حكومة السلطة في الضفة الغربية، وأصبحت الأموال تُصب على الحكومتين ليبقيا على انقسامهما، بما يحقق مصالح خارجية، ويضر بمسار القضية الفلسطينية الأساسي. وبدلاً من التوحد للمطالبة بالحقوق من المحتل اتخذ الطرفان مواقف عدائية من بعضهما، وأصبحت جلسات المصالحة الصورية تُعقد في العواصم العربية، لتغطي على اجتماعات أخرى تسير ضدها.

 

وهكذا تراجعت مكانة القضية الفلسطينية لأدنى مستوياتها منذ بدء الصراع، وأصبحت هامشية بالنسبة للدول العربية وشعوبها، التي تعاني تحت وقع الصراعات الدامية، بينما تقتتل حكومتا الشعب صاحب التاريخ النضالي العريق في الضفة وغزة في صراع بقاء يتم خلاله الضغط على شعب غزة المحاصر داخلياً وخارجياً.

 
وكان من الممكن أن تبقى الأمور على هذا القدر من السوء، لكن جاء ما هو أسوأ، كلما بدأت التحضيرات لانتخابات إسرائيلية أو تزعزعت التحالفات السياسية الداخلية في إسرائيل، شنَّت حرباً على حركة حماس وأجنحة المقاومة المسلحة في غزة المحاصرة بذرائع متعددة؛ ضرب البنى التحتية "للإرهاب"، تحرير جندي أسير، إنهاء حكم الجماعة الإسلامية "الإرهابية المتطرفة"، حماية سكان مستوطنات غلاف غزة إلخ، لكنها كانت تعود في كل مرة دون تحقيق أهدافها، ويخرج قطاع غزة من حرب بعد أخرى أقل أهلية للحياة، مع عدد مهول من الإصابات والشهداء، ثم يعلن قادته انتصاره.

 

حصار خانق وثلاث حروب شنَّها أحد أقوى جيوش العالم، على مجموعات مسلحة تسليحاً متواضعاً، أبادت أحياءً كاملةً، وقتلت المدنيين بلا رحمة، عبر القصف الجوي المدمر، وبتوغل بري محدود، لكنها لم تشفع للشعب الأعزل عند العالم، ولا حتى عند قادته؛ لم تكن للأرواح التي أُزهقت، خلال هذا الحصار وهذه الحروب، ما يكفي من القيمة لإنهاء هذا الفصل المذل من تاريخ قضية الشعب الفلسطيني.

  undefined

 

وحين قررت القوى العظمى إنهاء التجاذبات وإيقاف التمويل، تمهيداً لصفقة القرن التي قدم لها إعصار الفوضى الخلاقة، وبدأت جولات مفاوضات المصالحة الإجبارية، والتي حضرت لاتفاق يضمن نزع سلاح المقاومة في غزة؛ خرجت من غزة موجة عالية، لا يهم إن كانت طبيعية أو صناعية، لكنها شرعت وجهها للاعبين، تهدد الكبار بالتصادم مع الإعصار، هناك من يحاول أن يضربها في عمقها وهناك من يحاول ركوبها، وهناك من يقيم السواتر لتجنبها.

 
موجة غزة الكبرى ليست خطيرة بذاتها، خطرها في قدرتها على الصعود، وإغوائها للأمواج الصغيرة المتناثرة في البحر المضطرب، وتهديدها ليأس المهزومين، الذي تم نشره عبر سنوات طويلة من القهر والإذلال؛ خطرها في قدرتها على الإطاحة برموز السطوة المعتادة، وتحطيم أساطير الأمن النمطية، في أنها تعيد للأشياء قيمتها الحقيقية وتنزع عنها هالة الرعب، فالسلك الشائك مجرد سلك، والجنود المسلحين مجرد أشخاص، وما وراء السلك أرض مستحقة، وهذا كله يعني أن مستوطنات غلاف غزة أصبحت في دائرة الاستهداف الفردي أو الجماعي غير المنظم والذي يصعب رصده أو السيطرة عليه.

 
موجة غزة الكبرى تفتح الباب للمخاوف من عودة الأمل للمحاصرين، من عودة ذاكرة الشعب الفلسطيني إليه، واستساغته حلاوة الكرامة والهدف السامي، من انتقال العدوى للفلسطينيين في الدول المدجنة والمهددة بالصراعات المذهبية، ما قد يمهد ليوم يصحو فيه العرب ليدركوا أنهم ملايين وقادرين، وأن إسرائيل مجرد جيب استعماري، مهما بلغت قوته فلن يستطيع مقاومة انهمار البشر اليائسين من حياتهم البائسة، والذين قرروا فجأة أن يهدُّوا المعبد على رؤوس كهنة قادة "العالم الحر" الذين لم يرحموهم، فيكبر الخطر الذي يهدد مستوطنات غلاف غزة ليهدد وجود إسرائيل نفسها، وبالتالي توازنات القوة في العالم كله.

 
موجة غزة الكبرى تكبر، لذا لهجة العالم بدأت تتغير، لكن من يهتم؟ من قد يكون على قدر التحدي، ويقود الموجة خروجاً للحرية من الانكسار، بدلاً من أن يعتليها أملاً بالفرار؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.