شعار قسم مدونات

سقوط الأحزاب الشعبية في أوروبا

مدونات - الاتحاد الاوروبي
خلال السنتين الأخيرتين لاحظ المتابعون للشأن السياسي الأوروبي منحى مهما جدا بدأت الشعوب الأوروبية المختلفة اتخاذه وهو الابتعاد بشكل صارخ عن الأحزاب الشعبية التقليدية. ففي فرنسا خسر الحزب الاشتراكي الفرنسي، والذي تزعم الساحة السياسية الفرنسية لسنوات عديدة وخلال العقود الماضية، الكثير من قوته السياسية لصالح الحزب الناشئ "إلى الأمام" الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون. بشكل مشابه، خسر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني خلال الانتخابات الأخيرة التي تمت في شهر سبتمبر، أيلول من العام الماضي. على الرغم أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في طريقه لتشكيل حكومة ائتلاف مع الحزب المسيحي الديمقراطي بقيادة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لكن الحزب الاشتراكي وخلال الأسابيع الماضية خسر الكثير من مؤيديه، الذين يعتبرونه حزبا شعبيا يمثل طبقة الشعب العادية في ألمانيا مقابل ما يمثله الحزب المسيحي الديمقراطي من الطبقات المخملية وذوي الأصول الملكية.

إن المشكلة التي تواجه اليوم الحزب الاشتراكي الألماني أنه فقط هويته الشعبية، فهو يلهث بشكل أو بآخر وراء الحكم، مقابل مبادئه المتمثلة بتمثيل طبقات الشعب الألمانية الدنيا والدفاع عن مصالحها مع نهاية يوم الانتخابات الألمانية، أعلن الرئيس السابق للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، أن حزبه لن يدخل أي ائتلاف حكومي مع الحزب المسيحي وخصوصا أن الأجندة التي دخل بها الانتخابات تتعارض بشكل كبير مع أجندة الحزب المسيحي الديمقراطي. أثنى العديد من الألمان بما حصل وبهذه التصريحات، التي للأسف تم التراجع عنها خلال الأسابيع التي تلت، من عدم الدخول في ائتلاف، إلى الدخول في ائتلاف تحت شروط محددة، إلى الدخول في ائتلاف حكومي مع التخلي عن المطالب الأساسية التي دخل بها الانتخابات في الأصل.

إن البوصلة السياسية للشعوب الأوروبية بدأت بالتغير والابتعاد رويدا رويدا عن الأحزاب التقليدية بشكل عام والأحزاب الشعبية بشكل خاص بعد خذلتها بشكل كبير مع بداية الانهيار الاقتصادي العالمي

بين ٢٠٠٢ و٢٠١٠ حكم الحزب الاشتراكي الهنغاري عبر ثلاثة رؤساء للوزراء قاموا بتقريب هنغاريا، أو كما تسمى أيضا المجر، إلى الاتحاد الأوروبي والابتعاد عن روسيا ونفوذها المضطرد في دول حلف وراسو السابقة. ولكن ومنذ عام ٢٠١٠ تحول الحكم إلى فيكتور أوربان تحت حكم حزب "الاتحاد المدني المجري" ذوي النزعة التعصبية اليميني المتطرف.

في العام ٢٠١٥ انتزع حزب "حزب العدالة والقانون البولندي" اليميني المتعصب، الحكم في بولندا من حكم الأحزاب اليمينية الوسطية التقليدية وحتى من حزب القانون المدني الليبرالي الشعبي. هذا الفوز لهذا الحزب اليميني المتعصب هو الأول لهكذا حزب منذ سقوط جدار برلين وتفكك حزب وراسو والاتحاد السوفيتي.

إن السقوط المريع للأحزاب الشعبية في أوروبا، حيث ذكرت فقط بضعة أمثلة واضحة جدا هنا، أمر مثير للاهتمام بشكل كبير. هل ستستطيع الأحزاب الناشئة الجديدة، اليمينية المتعصبة منها والليبرالية أن تغطي مكان هذه الأحزاب التقليدية التي صالت وجالت في السياسة الأوروبية لأكثر من ٧٠ عاما؟ هل ستستطيع هذه الأحزاب الشعبية أن تعيد توجه بوصلتها بشكل صحيح لتستطيع استقطاب الفئات المختلفة من الشعوب الأوروبية المختلفة؟

إن البوصلة السياسية للشعوب الأوروبية بدأت بالتغير والابتعاد رويدا رويدا عن الأحزاب التقليدية بشكل عام والأحزاب الشعبية بشكل خاص بعد خذلتها بشكل كبير مع بداية الانهيار الاقتصادي العالمي خلال العقد الأخير من الزمن ومع بدأ أزمة اللاجئين في أوروبا في أواخر العام ٢٠١٣ بدأت الأحزاب اليمينية بالظهور وأخذت أبعادا جديدة أقوى مما كانت عليه خلال العقدين الماضيين من الزمن. إضافة لما سبق، فإن الوضع المادي السيء في العديد من دول الاتحاد الأوروبي والتي ساءت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث لم تستطع الأحزاب الشعبية، عدا عن ألمانيا، من المحافظة على المكتسبات الاقتصادية الهائلة التي حصلت عليها الدول المختلفة بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي. كل هذا دعا العديد من الشعوب الأوروبية بالانزياح والابتعاد عن هذه الأحزاب بحثا عن بديل جديد يمكن أن يقدم لهم الرفاه الاقتصادي والدعم الاجتماعي في بلادهم.

في ألمانيا مثلا حاول حزب "البديل من أجل ألمانيا" نازي النزعة تحويل مسار الناخبين الألمان عبر عدة أمور مختلفة ولكنه فشل فشلا ذريعا. انتصار هذا الحزب أتى بعد موجة اللجوء الضخمة التي وصلت أوروبا والتي استغلتها الأحزاب اليمينية لإشعال فتيل الطائفية لدى المواطنين الأوروبيين ذوي الدخول المحدودة والثقافة المنخفضة. ففي الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا، لم يستطع حظب البديل من أجل ألمانيا الحصول على أي من الأصوات في غرب ألمانيا بينما حصد العديد من المقاعد النيابية عن شرق ألمانيا والتي كانت سابقا قلعة سياسية كبيرة للأحزاب الشعبية عبر اللعب على الناحية الاقتصادية والدينية لهؤلاء قليلي الثقافة والعلم، وعبر تمويل حملات تظهر أن الدولة الألمانية ستتحول قريبا إلى دولة إسلامية ستفقد فيها الخصوصية الألمانية، وهذا أدى لصعود هذا الحزب في ألمانيا.

بنفس الطريقة حاربت ماري لوبين في فرنسا وقبلها والدها في نهاية القرن العشرين عبر اللعب على ضعيفي الثقافة والعلم وهم أكثر في فرنسا تبعا للحالة الاقتصادية ولكنها ولحسن الحظ خسرت في المرتين الأولى ضد جاك شيراك والثانية ضد مانويل ماكرون الذي أتى كبديل حقيقي في فرنسا يلبي رغبات الفرنسيين.

في الشهر الماضي، ربح الحزب اليميني المتطرف "حزب الحرية النمساوي" مع الحزب "الشعب النمساوي" اليميني أيضا لبناء الحكومة الجديدة والتي أعلنت فورا أنها ضد اللجوء وأن اللاجئين جزء من مشكلة النمسا الاقتصادية. على الرغم من أن ذلك ليس صحيحا فإن التخفي وراء الستار الاقتصادي أدى لظهور هذه الأحزاب اليمينية وهبوط الأحزاب الشعبية التي اعتمدت على تاريخيها ولم تستطع خلال العقدين الأخيرين من الزمن من التبدل والتغير والتطور لتتماشي ما يحتاجه المجتمع حقيقة من النواحي الاجتماعية، الاقتصادية والحياتية.

ما تحتاجه الأحزاب الشعبية حاليا لتستطيع النهوض من جديد، ضخ الكثير من دماء الشباب في قياداتها "ماكرون في فرنسا مثال عن قوة الشباب للوصول إلى الإدارة الرشيدة"، العمل على خطاب شعبي جديد يلبي حاجات المجتمعات الأوروبية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، التخفيف من لهجات الاندماج الأوروبية -رغم أهميتها- حيث أن الأزمة الاقتصادية التي حلت بأوروبا أظهرت عدم توحد الأوروبيين بشكل كبير خلف خطاب اقتصادي واحد أو رغبة جامحة بتوحد اقتصادي متكامل، البريكزيت مثلا، وأن حاجات الطبقات الضعيفة الفقيرة الأوروبية يجب أن يتم العمل على حلها وإيجاد الحلول الحقيقية لها بدلا من التبجح بتمثيل هؤلاء دون تغيير حقيقي لحالتهم الاقتصادية والاجتماعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.