شعار قسم مدونات

رُوح الطِفلِ

blogs - friends
الأطفال الصِغار، وأعني بالصِغار، صِغر عُمرهم، أي منذ لحظة ولادتِهم. تِلك السنين قبل اِصطدامهم بالعالم الخارجي، لتُلوث عُقولهم، وتُشتت أذهانهم، أو يتخلون عن مبادِئهم، وربما كان لتوديع أحلامهم البريئة مكان في حياتهم، كل ذلك وأكثر -رُبما بقليل- يُلقي بقلوبِهم في التُراب؛ فتفقد نقاءها وجمالها.
   
أُؤمن بشدة في نفسي بأن الله خلقَ الإنسان مُنذ ولادتهِ سليم العقلِ، كامل المشاعرِ، فلم أر قط طِفلا صغيرا ولو كان رضيعا يفتقدُ قلبهُ الرحمة، أو لا يريد أن يشعرَ الحُب من قِبل كل من حوله، بل إن الصغار نستشهِدُ بِهم، وبمواقفهِم؛ لنشعر بمعاني الإنسانية مرة أُخرى، ونتأمل جمال الطبيعة التي خلقها الله في هذا الكون متجسدة في ملائكة الأرض.
   
يكبرُ الطفل قليلا، حتى يكاد يستطيع أن يتفوه بالكلام المُتقطعِ، ويستطيع أن يمشي، أو حتى يزحف.
لا يُهمهُ ذلك كثيرا، طالما تحرك من مكانه، حتى أننا نراه فرحا لما أنجزه، وإن وقع، أكمل، فلا يُبالي حتى وإن تكسرت عِظامهُ من كثرة الوقوع، وذاك هو المُحارب الذي لا يُوقفهُ شيء -سوى أمر الله-، ذاك هو المُحارب الذي تفتقده في حياتك في تلك الأيام العصيبة. ترى نفسك مُحاطا بالسُقوط وتعلم في نفسِك أنه لا مجال للنجاةِ إلا أن تُحارب، ولكنك فقدت رُوح الطفلِ الذي لولاه ما تعلمت كيف تقف على رجليك لتمشي بهما.
   

تفتقدُ إلى صغيرك الذي كان يعلم بالفطرة كيف يتعامل مع الحياة، ليتجنب أوجاعها ويفرض أحلامه على الكون، ويحارب من أجل لحظة الوصول

ثُم يكبرُ الطفل ويُدرك الأشياء شيئا فشيئا فينظرُ إلى الحائطِ بعينه، فيراهُ لوحة كبيرة تسعُ أحلامهُ فيأخذه شغفهُ إلى رسم ما يدور في عقله من أحلام لا تحمل سوى الجمال، فترى عينيه تلمعان شوقا لمُلاقاة أحلامه التي يرسمها، ولو حاولت إبعادهُ -حتى بالعنفِ-، وجد لنفسهِ لوحة أُخرى فلا يكلُ ولا يملُ حتى يُحيطُك بأحلامه التي لا تفارق ذهنه، وتسكنُ في قلبهِ كُل ليلة، ولو لم يجد لوحة كبيرة يرسمُ عليها، لا يستسلم، بل يرسم ولو على جسده، فيشعر بقرب أحلامه من قلبه، فيطمئن عليها وهي بالقرب من قلبه وجسده، فالقلب يحلمُ ويتمنى والجسد يحتضنها ليحرُسها من الضياع، فتنتصر أحلام الطفل، ولو أبىَ العالمُ، شعوبا وحكاما.

     
وذاك هو رسامُ الأحلام الذي مات فيك عندما هُدِمت لوحةُ أحلامِك، هذا أنت، الرسام الذي رسمتَ بنفسك ما أنجزته في حياتك -ولو كان قليلا- وأنت صغير، رُبما هُدمت لوحةُ أحلامِك في الصِغر، ولكن الصغير علِمَ كيف يحفظُ أحلامهُ من الضياع، بينما لا تعلمُ أنت.
   
بدأ يوم جديد -في حياة صغيرنا- بمقابلة صديقه المُقرب إلى قلبه، حتى يتسامرا ويلعبا سويا، بدآ يومهما تحت ضوءِ الشمسِ الدافئة، تُضيئ عيونُهما الكون فرحا، ويرجوان من الله في كُل دقيقة ألا ينقضي ذلك الوقت الجميل، ولكن سُرعان ما اندلعت نيران الحزن بينهما، عندما اختلف هو وصديقه بلعب من سوف يلعبان، فعندما حاول صغيرنا أن يُقنع رفيقه بلعبته المُفضلة، غادر صديقهُ ولم يلتفت إلى حديثه على الإطلاق، وأخذ ايبكيان كلاهما، ولكن لأن صديقينا ملكان يعيشان على الأرض، من نعم الله التي أنعم بها على خلقه، ولأنهما لحُسن الحظ لم يكبُرا كفاية ليفقِدا معنى التسامُح، فلم يلبثا إلا قليلا حتى أخذهُما الشوقُ للعودةِ مرة أُخرى، ألقيا لعبهما بعيدا، وجلسا يحتضنان بعضهما، ويكأن كلا منهُما أراد أن يُرسل رسالة لأشباه البشر، يُعلمُونهم كيف تكون الصداقة، وكيف يكون التسامُح.
   
نعم، فأنت بالتأكيد يجب عليك أن تتعلم منهما أيضا كيف تعود إلى طفلك، لتُسامح من حولك وأيضا نفسك، وربما عليك أن تكون ذلك الصديق الذي لم ينتظر حتى تجف دمُوعه، بل سارع للمُصافحة حتى يُثبت أن عهد الصداقةِ ذاكَ لم يكن مُجرد كلام يُتلى، بل قلبا يعشق صديقهُ.
    
أظن أنك قد أدركت ما الذي تفتقد إليه، تفتقدُ إلى صغيرك، الذي كان يعلمُ بالفطرة كيف يتعامل مع الحياة، ليتجنب أوجاعِها ويفرض أحلامه على الكون، فتراهُ يُسامح نفسهُ وغيرهُ، يُحب أصدقاءهُ بقلبهِ، ويُحاربُ من أجل أن يشعُرَ بتِلك اللحظة -التي اشتقت أنت إليها- لحظة الوصول، اللحظة التي لن تتذكر عند بلوغها شيئا من مُعاناتِك، أو ربما لن تتذكر أنك عانيت من قبل، فقط ستشعُرُ مرة أخرى بالطفل الذي اِشتقت إليه، أيا يكن ما تشتاق إليه، إبحث عنه في ذاك الطفل، ستجدهُ مُتلهفا لعودتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.