شعار قسم مدونات

وهم الانتخابات "إحنا شعبين.. شعبين"

مدونات - انتخابات السيسي مصر
أثناء ذهابي بابنتي الصغيرة تالا إلى "الحضانة"، تالا التي لدي الكثير من الأنانية تجاه مستقبلها، وكأنه مستقبلي أنا، وكأنها من سيحقق لي ما لم أستطيع تحقيقه لنفسي. برغم بذل جهد كبير كلما ذهبت بها أو عدت نظل نتحدث في الطريق، ذلك الجهد ليس جسديًا بل ذهنيًا، حيث أحاول أن أطرد كلمة أمل دنقل "كيف ترجو غدًا لوليد ينام وهو يكبر بين يديك بقلب مُنكّس!"، وبينما نحن كذلك كانت سيارة تسير أمامنا ببطء ودلال، تصدر منها أغنية "بشرة خير" بصوت قوي راقص مبهج للأطفال الذين كانوا في السيارة وأعلام مصر ترفرف من نوافذها، في طريقهم للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية.
 
حتى كدنا أن نصل إلى "الحضانة"، سمعت أحد "البوابين" ينظر إلى السيارة يتتبعها بعينيه ويبتسم ساخرًا، فأتى صاحبه وقال له مشيرًا إليهم "من حقهم يفرحوا ماهي بلدهم يا عم مش بلدنا إحنا"، وكأن الرجل قد أباح لهم بطريقة منطقية من وجهة نظره مبررًا للفرح والسعادة ومنحهم حق الفرحة والاحتفال لأنها "بلدهم" وبنفس المنطق قد أوضح لنفسه ولصاحبه مبررًا لعدم فرحته هو لأنها "مش بلدنا"، تذكرت حينها كلمات الأبنودي رحمه الله في "أحزانه العادية" حين قسّم الناس هنا إلى شعبين.
 
"إحنا شعبين.. شعبين
شوف الأول فين والتاني فين
وأدي الخط ما بين الاتنين بيفوت
انتم بعتوا الأرض بفاسها.. بناسها
في ميدان الدنيا فكيتوا لباسها
بانت وش وضهر
بطن وصدر
ماتت
والريحه سبقت طلعت أنفاسها.
وإحنا ولاد الكلب الشعب
إحنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب
والضرب ببوز الجزمة وبسن الكعب
لكن انتوا خلقكم سيد المُلك
جاهزين للمُلك
إيدكم نعمت
من طول ما بتفتل وبتفتل
ليالينا الحلك"
 
 
أكثر ما يهمني كأب مثل أي أب هو ابنتي، تصيبني الحيرة والاكتئاب كلما سمحت لعقلي أن يفكّر في مستقبلها، في تعليمها، في عيشها كإنسان يعيش تجربته الحياتية على هذه الأرض ويخوض رحلته الفكرية ليستكشف ذاته ويستكشف عالمه، وأفكّر، ماذا لو استطعت أن أكون أبًا جيدًا وأزرع فيها معاني العدل والخير والحرية، حتى إذا كبرت وجدت نفسها في مكان لا يتنفّس أي هواء يحمل عدلًا ولا حرية، فعيش صدمة وتحيا غريبة تائهة بين ما تعلمته وبين ما تعيش فيه واقعًا، فأكون حينها أبًا ظالمًا.
 undefined
 
وكيف يمكنني أن أحكي لها عن تلك الفترة التي نعيشها منذ 2011 حتى اليوم، وأنا أريد من يحكي لي ويشرح لي ويفهمني، وكيف أبرر لها ذلك التناقض الرهيب بين صور ستراها في المستقبل تحمل عشرات الآلاف من اللافتات تملًا الشوارع بالتأييد في العالم الواقعي وبين عشرات الآلاف من الكتابات تملأ مواقع التواصل الاجتماعي بالرفض في العالم الافتراضي، سأخبرها أنني كنت أعيش في أي عالم منهم، أم أنني كنت أعيش في العالمين دون أن أصاب بالجنون!
 
لتعلم ابنتي يومًا ما أنني ووالدتها لم نكن نخطط أبدًا لأن تأتي إلى الدنيا في هذا الوقت، ولكنها كانت أقوى وأكثر عندًا من أن تستجيب لرغبتنا وأتت، ولم يكن ذلك إلا حرصًا عليها وحبًا فيها حتى وهي لا تزال في العدم، ولتعلم أنها حين أصرّت وأتت لم يكن أسعد منها برؤيتها والنظر في عينيها، ولم يكن أكثر منا همًا كلما تركنا لأذهاننا الفرصة لرؤية الواقع الذي تعيش فيه.
 
كغيري من شباب جيلي، انخفض سقف أحلامي في انصلاح أحوال بلادي إلى الحضيض، وارتفع سقف حيرتي في فهم ومنطقية ما يجري من أمور وما هو مقبل علينا وإلى أين سنذهب، وكم أتمنى أن تخيب ظنوني فيما هو آتٍ، وأن يكون واقع ابنتي أفضل من واقعي، وأن تقرأ هذا الكلام يومًا ما وهي تسخر من تشاؤمي، وأن تكون قد استطاعت أن تفهم ما حدث في هذه السنوات هي وأبناء جيلها. وكم أتمنى ألا تصلح أشعارنا وكتاباتنا الحالية لزمانهم وأن تكون فقط على سبيل التاريخ الذي تغيّر، ولعلهم يجدون أملًا، فأبنائنا هم الأمل الوحيد الباقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.