شعار قسم مدونات

على قيدِ المحبة..

blogs فتاة جميلة

كنا ندرسُ كباقي الطلبةِ في الجامعة، ننسى كتاباً، نضيع قلماً، نمشي كثيراً، نبكي ونضحك، شهدت كلّ الزوايا أحاديثَنا الصباحية، وأحلامنا بالتخرجِ، وما بعد التخرج، والهروب إلى الحياةِ العمليةِ، حيث العملُ أكثرُ راحةً، وأنفعُ وأجدرُ بأوقاتنا، أو هكذا اعتقدنا، استعجلنا الخروجَ، فتعجّلت أفراحُنا، ودموعٌ سكبناها لحظةَ وداع، وأردنا أن نكبُرَ سريعاً، ففاتتنا أعمارُنا الصغيرة، بعد أن فرّقتنا الحياةُ، كلٌّ في طريق.

 

في السنةِ الماضية تقدّم شاب لخطبةِ صديقتي لَمياء، لكنّه تركها مؤخراً؛ لأنه يدّعي -بحد قوله- أنه غيرُ قادرٍ على الارتباط بفتاةٍ طموحة، مدركة تفوقها، ومصممة على تحقيقِ أحلامها، لم يُرد أن يتحملَ ما تصبو إليه، وما أرادت أن تصيرَه.. تكسّرت أحلامُها فمنذ ذلك الحين، لم تعد ترغبُ بشيء. أما صديقتي ملَك فتزوجَت، وأنجبَت طفلين، أحدُهما وُلد مريضاً، وضعُه الصحيّ ليس على ما يرام، ادّارَكَتِ الموقفَ بقوة، استلمَت زمامَ الأمورِ، وأدركَت أنه امتحانٌ من الله، وعليها تجاوزُه، وواجبٌ أن تكونَ خيرَ أمٍّ لولدِها، وزوجةٍ لزوجها، وممرضةٍ لمريضها، ومع تقاعُس الزوجِ بمهامه، كانت كلّ شيء وأكثر.

 

فيما تعيش صديقتي الأخيرةُ مريمُ بعيداً عن عائلتها، في إحدى المدنِ الغربيةِ الشديدةِ البرودة، بعد أن زَوَّجها والدُها من رجلٍ لم تحببّه قط، لكن كان عليها أن تَقبلَ به؛ لأنها إن لم تفعل ستواجِهُ مجتمعاً يُقحم نفسه بتفاصيلِ حياتِها. مجتمع يُرهق كاهلَ الفتيات تحت سطوةِ الأفكارِ التي تُرضخ الفتاةَ بالزواجِ انسجاماً مع تقاليدَ مجتمعيةٍ باليةٍ. تشعرُ مريمُ كما لو أنها معتقلة أو أسيرة حرب دامية بين الحياة وبينها.. تُرغم نفسَها على النهوضِ لأجلِ مولودٍ أحضرَ معه بعضَ صخب في حياة كانت تحياها بغير قلب..

اغرس الحياة أينما استطعت، واغرس الحبّ في كل نفس؛ فإن الله قد جعل في الحب ما يصلح الفاسد، ويقوّم المعوجّ، ويلين الصلب

هناك بهجةٌ تنبعث من وجود الأشخاصِ، تُنعش أرواحنا، وتترك لنا بصيصَ أمل، لكن البشر لم يتركوا لنا سوى الخيباتِ المتوالية لكي تكسرَ يقيننا بالأشياء كلها، إلى أن نصل لنقطةٍ لا يعود يفاجئنا بعدها شيء. بالرغم من مقدرتنا على المحبةِ، وبالرغم من حاجتِنا جميعاً إليها كي نواجه فظاعاتِ أيامنا.. نواجه الكثير من الكراهية يوماً بعد الآخر..

 

صعبٌ جدّاً أن نشعر بالرفض والهزيمة، لنرثي نقاء أنفسنا، كما أحلامنا الهزلية التي سنضطرُّ لدفع ضرائبها دروس للحياة.. وانتظار أدوارنا في الصفوف الطويلة.. كثيرٌ من المسؤولياتِ التي استطعنا احتمالَها، وتحملْناها، لم نستطع تجاوُزَها حينما فارقتنا، أو تصورنا رحيلَها؛ لأننا اعتدنا أن نحبّ، واعتدنا وجودَها، وتعلّقنا بها وإن كانت قد أرهقت كاهلَنا أعواماً، نستيقظُ كل صباحٍ نبحث عن مسؤولياتٍ جديدةً اتجاه البشرِ تُبقينا على قيدِ المحبة..

 

عندما سألتُ يوماً أحد المعتقلين في سجونِ الاحتلال: "ما كان يُبقيك حيّاً، ما كان الشيءُ الذي دعاك أن تتجاوزَ تلك السنين محتملاً كلّ تلك القسوة؟!" أجابني: "بعضُ الحبّ، وبعضُ الكرامة وبعضُ القيمة.. حبٌّ زرعه الآخرون، حينما كنتُ معتقداً ألّا حاجةَ لي بالحبّ، فاحتجتُه في لحظاتِ قسوةِ الحياة وآلامها.. أن تشعرَ أنك ذو قيمة، وفيك من الكرامةِ ما لا يضطرك للخضوع ولو أرغموك عليه.. وفيكَ من الحبّ ما يكفي ليجعلَك قادراً على أن تشعرَ بقيمة الحياةِ في داخلك".

 

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"..  اغرس الحياة أينما استطعت، واغرس الحبّ في كل نفس؛ فإن الله قد جعل في الحب ما يصلح الفاسد، ويقوّم المعوجّ، ويلين الصلب. واجعل لك في كل مكان بصمة خير، فهي ملاك القلوب…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.