شعار قسم مدونات

عن الجغرافيا عندما تختار لك جارا بالغ السوء!

مونات - اليمن
يتواصل في الإعلام والفضاء الوطني عموما نقاشا حاداً وجوهرياً يُرسم من خلاله صورة عن انحراف واضح في مسار التحالف العربي في اليمن. تبدو تلك الصورة مغرية ومريحة لأنها بسيطة وواضحة، فالتحالف لم يعد كما أعلن في البدء جاداً في استعادة الدولة! لكن ما أن يبدأ المرء يقلب النظر في تلك الصورة، حتى يبدأ الضباب يتسرب إليها من كل ناحية.
 

إن رسم تلك الصورة الكاشفة عن الانحراف بتلك السذاجة راجع إلى ضحالة التصورات التقليدية التي رسمتها ذهنية يائسة وفاقدة للحيلة عن الدور الذي يمكن أن يقوم به جوار سيء السمعة أخلاقياً وسياسياً في الخلاص من كابوس ليلة مزعجة، فلم يكن بوسعها أن تدرك أنه لا يمكن لجريمة أن تؤسس لوعد ٍ بالخلاص! غير أن من تجاسروا على إطلاق بصائرهم لرؤية الغثاء القادم من جوار بالغ السوء أدركوا أن يوم السادس والعشرين من آذار مارس 2015 ليس إلا فرصة سانحة لبدوية جوفاء حاقدة، وصاغوا سؤلاً جوهرياً وملهماً: أنه من يستطيع أن يقول مع شيء من الجدية أن النظام السعودي يحارب بكل مقوماته السياسية والعسكرية والمالية وحتى رمزيته الدينية، بغية إرساء دعائم نظام جمهوري ديمقراطي ذو قرار سيادي على تخومة الجغرافية الأكثر حساسية؟!

 

بمعايير برغماتية بدائية تحوي طابعاً سادياً في تحقيق أهدافها، ليس ثمة مسار محدد ولا انحراف، في سلوك التحالف، فالسعودية تنظر لليمن وبشواهد تاريخية عدة، ووفق تصورها هيَ، كجزء من مجالها الحيوي فهي التي يجب ان تحدد اختياراته، وحتى طريقة بؤسه. تتجلى سادية سلوك التحالف الذي يقود حربا بمسوغ يجري توسله في السياسة والقانون معاً تحت شعار استعادة الشرعية ودحر الانقلاب في عدم محدودية حربه بالزمان والمكان وفي غموض ملاح العدو وعدم تحديده، (من هو عدو الشرعية، ومن هو المنقلب، من هو عدو الدولة وصديق والجمهورية ؟)، وذلك ما ينسف بالأساس "بمعايير شرعية أخلاقية" استخدام المسوغ!

 

التحالف فشل فشلاً ذريعاً ومنذ اليوم الأول في تحقيق الأهداف التي أعلن عنها حتى في حدودها الدنيا، غير أن ذلك لا يمثل بعداً جوهريا في جملة المفارقات والتناقضات التي طبعت سلوك التحالف في اليمن

وأكثر من ذلك ثمة معضلة حقيقية في رؤية التحالف الحليف افتراضا او هكذا يجب ان يكون، في هذه الحرب عنوانها الأبرز العبث على نحو مبالغ فيه بمصير البلاد، عبث ولدّ نقيضها، اي الحرب، فالتحالف يقضي على مليشيات افتراضاً ويفرّخ غيرهم باستمرار، مرسخاً نفسه بذلك كواحدة من أخطر معضلات اليمن التاريخية على الإطلاق.

 

فبعد أن تمكن التحالف (بقيادة السعودية دائما) من تحقيق نصر عسكري في جنوب البلاد والسيطرة على مدينة عدن، لم يدع الأحوال تسري وفق المجرى العادي للأمور، والتي تقتضي بداهةً بدء مسيرة تخليق الحياة العامة في المدينة وجعلها نموذجاً تستجيب لنداء إغرائها باقي الجغرافيا، وتمكين الحكومة الشرعية من ترتيب أوراقها وممارسة دورها في تطبيع الحياة، وإدارة البلاد على نحو يعزز من موقفها على جميع الأصعدة وخصوصاً فيما يتعلق بقوة الموقف التفاوضي وتعزيز الالتفاف الشعبي حولها، من خلال الحد من تفاقم المعانة التي خلفتها الحرب، غير أن للعنة الجغرافيا وما تجنيه دائماً عندما تختار جوار بالغ السوء، رأياً فادح اللئم، حيث عمل التحالف وبجناحه الإماراتي على تهميش الحكومة الشرعية البالية أصلا والمهترئة شكلاً، عبر خلق كيانات عسكرية وسياسية شعوبية موازية للحكومة، سعت باستمرار وبخطوات مدروسة نحو إضعاف هذه الأخيرة. والعمل على إعادة إنتاج جديد للسياسة واستمرارها في صورة حرب، وسد الفراغات التي تتركها حالة الحرب المستمرة في المناطق الأكثر أهمية وخصوصا كل ما يتعلق بالموانئ والسواحل الاستراتيجية تحقيقاً لمآرب برغماتية منحطة. بمعزل عن التفكير بمعاش الناس وأمنهم.

 

ذلك النزق الأرعن يحتاج إلى تأمل يقدم قراءة عادلة لوجهتي النظر السعودية والرؤية الشعبية الوطنية،،بشأن طبيعة الحرب وكيفية الخلاص منها وكسب معركتها، وفي كل الأحوال بمعزل عن وجهة نظر الحكومة الشرعية اليمنية، التي أحالت نفسها بنفسها تماماً مثل بقية الاطراف الداخلية إلى مستخدم أداتي أكثر من كونها فاعل محلي، والنظر بعدل يقتضي الإقرار أن الرؤيتين اليمنية أي رؤيتنا نحن كشعب والسعودية ليستا مختلفتين وحسب، ولكن العالم يبدو مختلف بين السعودية واليمن، بين بلد متجذر في عمق حضاري ثري ومنطقة جيوبوليتيكية مثالية، وتضاريس متنوعة بإمكانها أن تفتح باباً واسعاً لاقتصاد متنوع ومنتج، وكتلة بشرية حية، وطموح باذخ بإرساء دعائم نظام جمهوري يسوده دستور بمبادئ ديمقراطية كخيار يعبر بواقعية عن امتداد ماضيه العريق وحاضره الواعد، وبين كيان بروابط أسرية أنانية أقام نظاماً ملكياً بدائياً بطابعٍ استبداديٍ فج، كل مؤهلات ذلك الكيان هو انه تفوح منه رائحة النفط باستمرار وربط مصيره به وألحق من خلاله عوضاً عن حُسن استغلاله ضرراً جائر الأثر بنفسه وشعبه وكل محيطه العربي.

    undefined

  

ذلك التأمل يحيل إلى فهم جوهري وبسيط، فثمة مغامرة بليدة غير مدروسة العواقب، كسرت تقاليد خطرة، اقتضت التعامل دائماً بحذر مع اليمن، وجرى في الواقع تحاشي تجاوزها منذ زمن طويل كحتمية تاريخية تفرض احترام سيرورتها من طرف الأسرة المالكة في السعودية. تدرك القيادة المندفة للعربية السعودية في هذا السياق وجود تناقض صارخ بين ما تريد هي أن تفعل في اليمن وبمجازفة تتجاوز تقاليد بقية محظورة لدواع عقلانية، وما يُراد منها أن تفعل، فجوار جغرافي مثل اليمن يمتلك كل مقومات النهوض، هو أمر يقلق العقل البدوي. العقل الذي ترعرع في صحراء غنية بالنفط رسخ سردية كبرى تقتضي تمرير غايات بائسة منتهاه إضعاف اليمن بغية السيطرة عليه. ولا يستطيع معها الإدراك بأن دولة فاشلة بالجوار وبارعة في خلق بيئات عدم الاستقرار، تحيل الحدود إلى حقول مليئة بألغام كروية تتدحرج باستمرار ولا تحتاج لمفك تأويل!

 

ما توحي به المناخات المختلفة حالياً في سياق تفاعلها مع طقس الحرب، أن التحالف فشل فشلاً ذريعاً ومنذ اليوم الأول في تحقيق الأهداف التي أعلن عنها حتى في حدودها الدنيا، غير أن ذلك لا يمثل بعداً جوهريا في جملة المفارقات والتناقضات التي طبعت سلوك التحالف في اليمن، فالفشل هو اسهل ما يمكن ادراكه في حرب غبية، بلا رؤية محددة وهلامية الشكل، فما يمثل بعداً ذو قيمة في هذا السياق، هو السؤال والسؤال الأهم في الحقيقة هو كيف استطاع التحالف الخروج من مأزق الفشل في تحقيق وعوده بإحالته وما صاحبه من جُرم فضيع بحق مئات الأبرياء إلى أدواته في الداخل، وكيف أدار التحالف بجناحه الأكثر قبحاً (الإمارات) فشلُه لصالحه؟

 

ثمة جواب أوحد بوسعه تقديم تفسيراً منطقياً، ينتهي إلى التسليم بأن خصوبة مناخ النخب السياسية (كل النخب بلا استثناء)، والتي لم تكن لتجد حرجاً من التاريخ الذي يراقب حركاتها ويدون معنى الاستلاب في لحظة تجليه والتي أسعد الحظ التحالف/السعودية والإمارات تحديداً في أن يمارس بغيه تحت ظلها، وأصابه بالإغراء حتى أنه لا يجد متسعا للتفكير في مآلات صنعيه الشنيع، وبالتي في تجيير فشله الذريع إلى مصالح مؤقتة.

    undefined

  

راهناً وبعد أربع سنوات من بدء عمليات التحالف، ثمة شعور شعبي جماعي بالخيبة والندم، شعور جماعي بأنه تعرضا لخديعة شنيعة بوحي منها خاض حربا ليست حربه، وقدم من أجلها آلاف الضحايا في معارك لا تعنيه ليجد نفسه بعد ذلك في واقع يجعل من كابوسه الوحيد في ليلته اليتيمة واحدا من ألف كابوس عاشها على مدى أربع سنوات، واقعاً بات معه في خوف شديد على المستقبل ومن المجهول.
  
عملياً يمكن لحالة الخوف تلك أن تكون بمثابة النقطة التي يطفح بها الوعاء، فلا شك أن من شأن الوصول إلى تلك المرحلة من الخوف أن يدفع باتجاه البحث عن النجاة حتى ولو هلك الآخرون، وخصوصاً مع تعمد خنق الشعب بمزيد من الأزمات ليس آخرها تضيق الخناق على المغتربين اليمنين، وجعل أفراده أمام خيار واحد متاح وهو أن هناك دائما ضحايا فاحرص على أن لا تكون منهم، فكيف باجتماع غريزتي البحث عن النجاة والرغبة في الانتقام؟
  
ذلك المزيج من التوق للنجاة والرغبة في الانتقام الرادع يحتاج إلى إلهام، وهنا لن يكون ركام المباني والدمار وأشلاء الضحايا واكتظاظ المقابر، مجرد شاهد على حماقات جار بالغ السوء، بل رمزاً ثورياً ملهما لنفض الغبار عن قِدم ثأرٍ تأخر أكثر مما ينبغي. أن علينا نحن ونحن وحدنا كيمنين الالتفاف حول طريقة ما لإيقاف ذلك النزق المغلف بالغباء، فلا ينبغي علينا أن نجعل ثلة من الحمقى أخترناها بمحض إرادتنا أن تحُيلنا إلى مجموعة بؤساء غارقين في متاهات لا أفق لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.