شعار قسم مدونات

الأفلاطونية الصهيونية

blogs يهود في فلسطين

في كتابه "اليهود واليهودية: ثلاثة آلاف عام من الخطايا" كانت أطروحة الكاتب اليهودي إسرائيل شاحاك بمثابة فضح الممارسات الوحشية التي يمارسها اليهود ضد الفلسطينيين، ومراجعة دقيقة لتلك الثلاثة آلاف عام من تاريخ شعب حاول قادته اخفاء حقائق تاريخه المروع.

بدأ شاحاك حياته معتقلاً في السجون النازية، ثم فرّ مع والدته إلى فلسطين عام 1945 وكأغلب الشباب اليهودي خدم في الجيش، ثم أصبح أستاذاً في الكيمياء الحيوية في الجامعة العبرية، ومن أشد المتحمسين في البداية لسياسة بن غوريون، ومن أكثر المدافعين عن الوجود اليهودي في فلسطين، وبالتالي كانت ردّته عن التصور الصهيوني أكثر ما أثار الدهشة لدى بني جلدته، وشأنه شأن أي كاتب يهودي رافض للدولة الصهيونية، سيلاقى بالحرب الإعلامية أوالتعتيم والتجاهل، أو الموت في ظروف غامضة إذا اقتضت الحاجة. في محاولة شاحاك لرفض "الأيديولوجيا اليهودية" وهو المصطلح الذي يعتمد عليه في تحليله، يتوجه مباشرة إلى الفكر اليهودي الكلاسيكي، وفض النقاب عن الخرافات التي ينطلق منها فكر كهذا، وذلك في سياق محاولة فهم الكيان النفسي المكوّن لوجدان شعبه اليهودي الذي أفرز كم من الكراهية لكل ما هو غير يهودي.

 

وبالتالي كانت حقوق الإنسان هي نقطة انطلاق شاحاك في نقد الممارسات غير الإنسانية التي يمارسها اليهود، والكشف عن الوجه الحقيقي للتعاليم الدينية المؤسسة لدولتهم المزعومة، فقد حاول أن يفهم الدافع وراء قيام مزارع يهودي في إطلاق كلابه لتنهش طفلاً فلسطينياً، فأي متعة أو أخلاق أو دين أو درس يمكن أن يستفاد من منظر وحشي بتعريض إنسان لهذا القدر من الألم؟ حاول أن يفهم كيف لمواطن يهودي أن يرفض استعمال هاتفه للاتصال بالإسعاف لكي ينقذ جاره غير اليهودي الذي سقط عليه بيته لكي لا ينتهك حرمة يوم السبت؟!

 

أهم ما تناوله شاحاك هو الكشف عن العنصر الأيديولوجي الديني الذي يؤسس للتصورات السياسية من خلال صناعة فجوة فارقة بين اليهود والآخرين، إنها علاقة متوترة ملؤها الخوف والكراهية لغير اليهود

لهذا وأكثر بات شاحاك بين قائمة أعلام يهودية تهدد اليهودية نفسها، وبتحليله الفريد من نوعه من خلال الحفر عميقاً للكشف عن الأوهام التوراتية السياسية الدينية منها والعرقية، بغية محاولة انعتاق من غيتو رسخته سلطة حاخامية مليئة بالمغالطات والنظرة العدوانية للآخر. في كتابه المعني يثبت شاحاك أنه لا حل ولا سلام دون التحرر من خرافة شعب الله المختار، والتخلص من الأيديولوجيا اليهودية، من خلال محاربة جميع الأفكار التي تستقي نفسها من هذه الرؤية المتجذرة في وعي وإدراك أفراد المجتمع اليهودي. وفي المقابل يرى شاحاك أيضاً ضرورة تغيير جذري في العقلية العربية، والكشف عن رفضها للحقيقة من خلال فشلها الدخول إلى عقل الفكر اليهودي الديني الذي هو مركز الأيديولوجيا اليهودية في سياقها السياسي.

 
ففي كتابه هذا يعمل شاحاك على استصدار وثيقة هامة من قلب التاريخ اليهودي نفسه، لإدانة عقائدهم المكونة لعقلية يهودية تجد مستقرها دوماً في التعاليم الدينية، ولذلك يُذكر شاحاك يهود اليوم بأن الرومان حينما اكتشفوا حقيقتهم قاموا بطردهم من فلسطين، وكذلك فعل الألمان حينما وضعوهم في المعتقلات النازية، وهو ما سيتكرر عاجلاً أم آجلاً على حد زعم شاحاك الذي حاول من داخل العقلية اليهودية أن يبحث عن حلول لإشكالية شعبه، فتنبأ بفشل مفاوضات أوسلو، كما أكد أن الانتفاضة الشعبية هي السبيل الوحيد للرد على القمع الصهيوني في دولة يدعي قادتها ديمقراطية كاذبة لا تنطلي إلا على ساذج أو منافق.

 
ذكرت أن شاحاك حاول الحفر في الفكر المكون للوجدان الجمعي اليهودي، فلم يجد سوى فهم حاخامي يؤسس لقوانين دولتهم، بما في ذلك الجزء المدعي بالعلمانية، فهو لا يقل عنصرية عن الجانب الديني الأكبر. يقول شاحاك: "فبدأ بدراسة الشرائع التلمودية التي تحكم العلاقات بين اليهود وغير اليهود، فلا يمكن فهم الصهيونية بما في ذلك جزءها العلماني الظاهر، ولا السياسيين الإسرائيليين منذ نشأت دولة إسرائيل ولا سياسات المؤيدين لليهودية في إسرائيل وفي خارجها دون معرفة التأثير العميق لهذه الشرائع"، وهو الأمر الذي شرحه مفصلاً أكثر في كتابه الآخر (الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود).

 
ويشير إلى أن نظرة اليهود لقضية حقوق الفلسطينيين، تبلورت أكثر بعد حرب الأيام الستة، كما تبلورت السياسات الفعلية لإسرائيل، وكان يعني بالسياسات الفعلية جملة التفاعلات بين الأراء الواقعية والمؤثرات الأيديولوجية التي باتت أكثر نفوذاً من غيرها، لذلك أصبحت الأشكال العرقية، ومبدأ التمييز العنصري، والخوف من الأجنبي لها رواجاً أكثر في العقلية اليهودية، بل وفاعلية تتجلى في مدى تأثيرها على العقل السياسي الذي أطلق العنان لمثل هذه الأفكار.

 

undefined

ومن أمثلة ذلك مدى تأثير الحاخامات على أفراد وضباط الجيش، بتوجيههم إلى الطريقة الأفضل في التعامل مع العرب وفقاً للمبدأ التوراتي "أنت لن تترك حياً أي شيء يتنفس"، "لأنهم أعداؤنا وهم أدنى منا"، وغيرها من دروس دينية تلقى رواجاً بين أفراد الجيش الذين يجدون أنفسهم من خلال هذه الشحنة الدينية والتعبئة النفسية المدفوعة الأجر بنصوص دينية متعطشون دوماً للدماء.

 
إن أهم ما تناوله شاحاك هو الكشف عن العنصر الأيديولوجي الديني الذي يؤسس للتصورات السياسية من خلال صناعة فجوة فارقة بين اليهود والآخرين، إنها علاقة متوترة ملؤها الخوف والكراهية لغير اليهود، ومثل هذه الفجوة الشوفينية جعلت من السهولة إلصاق تهمة معاداة السامية لكل من يتحدث عن عناصر تاريخية أو اجتماعية أو سياسية في سياق مصاحب لنقد دولة الكيان الصهيوني.

 

 الأيديولوجيا اليهودية هي ما تحكم الموقف السياسي للإسرائيليين، وليس الفهم الإستراتيجي، فاليهود المتدينين وهم الأغلبية يعتقدون "بأرض إسرائيل" بوصفها ملكاً لليهود وحدهم

إن توماس مور ومن قبله أفلاطون وبتأسيسهما للجمهورية الفاضلة جعلا بالإمكان لدى شاحاك وبتقليد من هيو تريفور روبر تأكيد أن الخطر الفعلي للسياسات الإسرائيلية المرتكزة على الأيديولوجيا اليهودية هو أكبر من السياسات المرتكزة على اعتبارات استراتيجية. فاليهودية الأفلاطونية المتمثلة اليوم في إسرائيل والمدفوعة بحلم حاخامي توراتي تمثل الخطر الأكبر من الاستراتيجيات التي يتبناها بعض كتاب وسياسي إسرائيل في محاولة تسويغ وجودهم من خلال الدفاع عن نظم سياسية عربية على اعتبار أن أمن واستقرار المنطقة العربية مصلحة كبرى لإسرائيل بالدرجة الأولى.

 
بينما يرى شاحاك أن إدخال مؤثرات أفلاطونية على الدولة اليهودية جعلها مرتبطة بما أسماه باليهودية الكلاسيكية، فكما صرح أفلاطون في جمهوريته أنه لا بد للأفراد من الاعتماد على الشرطي في توجيههم من أجل مصلحة الدولة، فإنه بتحوير حاخامي يمكن استبدال كلمة حاخام بدل كلمة شرطي في أفلاطونية يهودية صهيونية تسعى لترسيخ مجتمع مغلق على نفسه يقاد من ثلة براغماتية لها غايات ترمي إليها، وهو ما اعتمد عليه الفيلسوف اليهودي كارل بوبر في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه) في وصفه لمجتمع مغلق فيه القيادة مقتصرة على نخبة مدبرة.

 
يختم شاحاك كتابه بالتأكيد على ما بدأ به، وهو أن الأيديولوجيا اليهودية هي ما تحكم الموقف السياسي للإسرائيليين، وليس الفهم الإستراتيجي، فاليهود المتدينين وهم الأغلبية يعتقدون "بأرض إسرائيل" بوصفها ملكاً لليهود وحدهم، وهو الأمر الذي كرره أيضاً في كتابه (الأصولية اليهودية في إسرائيل) المشترك مع نورتون ميزفنيسكي للحديث عن سطوة الدين اليهودي على الساسة اليهود. فاليهودية الكلاسيكية وبتعنتها الأيديولوجي لا تعقتد ولن تسمح بأي سيادة على "أرض إسرائيل" لغير اليهود، وأن مثل هذه الأيديولوجية هي ما تحكم المفاوضات مع الفلسطينيين، وهي نفسها التي ستجهض أي قول بالحكم الذاتي للفلسطينيين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.