شعار قسم مدونات

مناجاة الليل..

blogs - night
هدأت الأصوات وانفضت الجماعات وسكنت الحركة ولم يبق من صوت سوى عقارب الثواني المحبوسة في ساعة الحائط وهي تدور دون كلل أو ملل، تركتها تمضي لحالها، وقمت أقف على شرفتي، ها هي المدينة الكبيرة تبدو أمام ناظريك قد تلحفت بلحاف الليل تثائبت لتلخد للنوم فابتلعت الناس في بيوتها ومضى كل منهم ليحكي لليل قصته.
  
وقفت أتأمل هذه اللوحة السوداء البالغة الإبداع، كل تلك البيوت هادئة في الخارج عامرة بالضجيج في الداخل، ولكل بيت في داخله قصص وحكايات كم من حبيبين في الليل انفصلا للتو ينهش الحنين قلوبهم والوجع أرواحهم، وكم من عجوز لم يبق في دنياها سوى أيام معدودات يأتيها الليل فينبش مقبرة ذاكرتها، فلا هي إن رجعت للوراء يعود الأحباب ولا إن توقفت عن التفكير يهون ألم الشيخوخة والوحدة. والصديق الذي تركه الصديق في منتصف الطريق له مع منتصف الليل صور وذكريات تطرد النوم وكأنها حارسة الأرق تدفع كل محاولة نوم في محاولة اجترار مزيد من الذكرى. والأديب في الليل يقف على شرفته يتأمل أحوال الناس ويسجل خواطره تاركا للهواء متعته الخاصة بأن يداعب وجهه َويقبل وجنتيه، والمفكر يقف وينظر من نافذته يتأمل أحوال أمته يتألم لما أصابها تاركا خلفه آلاف الأوراق معتقدا أن الكلمات ستغير الحال إلى حال.
   

الليل ستار يستر عيوب الناس، لكنه يفضح حقائقنا يفضح مشاعرنا وكذبنا وخبايانا، فنخرج مكنونات أنفسنا ونقول ما لا نجرؤ على التفكير به في النهار

والمرضى والثكالى والأيتام والأرامل لكل منهم قصة مع الليل لا يدري البشر عنها شيئا لليل قدسية خاصة، إنه فرصة المقربين، وملاذ العارفين، وفرصة المتأملين الهاربين، يغيب النهار ويهجم شبح الليل لنبدا بمحاسبة انفسنا عما اقترفناه في النهار، تمسك بنا الظلمة فتعلقنا على خيوط التشتت والحيرة، وتشبثنا بحبال الهذيان، فنشعر بسقوط في وادي الضياع، ويعبث طائر الذكريات بعقولنا، لنشعر بضجيج يسري في أرواحنا، ويبدأ الليل بسمفونيته الصاخبة التي تملأ النفوس ضجيجًا فتهتز الروح والجسد معا. تنعتش الذكريات وتنتشر على سطح الذاكرة كما ينتشر القناصون على أسطح البنايات ليلا أولئك يتصيدون إنسانا والذكرى تتصيد الماضي. في الليل تتمايل كشجرة الصفصاف وحيدا، وترى أن الدنيا لم تكن سوى سراب يخبرك الظلام أنه لن يبقى لك سوى نفسك كما هو حالك الآن لكنك تنسى كل دروس الليل في النهار.

    
في الليل تتناثر المشاعر في النفس تناثر النجوم في السماء وفي العتمة تتلاقى الأطياف وينبش كل الموتى قبورهم ويخرجون إليك. فإذا كل من غاب حضر وكل من غاب عن الذاكرة في ضجيج النهار تمثل أمامك فجأة، يعاتبونك وتعاتبهم، ثم يمضي الجميع عند بزوغ الفجر، تمد يدك فلا يلوح لها سوى سراب في الظلام، تولي ظهرك ثم تمضي وحيدا بعد أن تنفض جموعهم. في الليل يخلع الحنين أنيابه لينهشك بمخالب الماضي. ينهشك الحنين وتذبحك الذاكرة بسكين الذكريات، إنها سكين لا تذبح ولا تقتل لكنها تؤلم وتترك أثرها على النفس كما تترك السكين الحادة أثرها على الجلد. كيف لا وهو مطفأة الذاكرة، وبعد كل تلك الطقوس الكئيبة يبدأ بمهمته المعتادة يعريك الليل من كل ما ليس أنت، يعريك من ثوب الخديعة ليلبسك ثوب الحقيقة فتقف أمام مرآة روحك تكتشف خباياها، وتدخل في دهاليزها تفتش عن بئر نفسك العميق والتي تختفي تماما في النهار فترى وجهك على حقيقته بلا كذب ولا مجاملة
يضعك أمام حقيقتك يزيل مساحيق التجميل التي تصبغ بها نفسك في النهار يغسل وجهك بماء الواقع فترى مسام وجهك بمنظار مكبر فلا ترى فيه الحفرك صوف نزعت منه الحديدة للتو.
    
يخيم الهدوء في العالم ليبدء الضجيج في عالمك يأتي الماضي ويغيب الحاضر ويندثر المستقبل وتقفز الذاكرة لتحضر مئات الصور التي نسيناها في زحمة الحياة. يتوقف الزمن لتغمض عينيك وتستمع لدقات الثواني وهي تمر، تك تك تك وكأنها عداد الوقت التنازلي، تلك الثواني ليست سوى عداد عمرك، كالساعة الرملية كلما سقطت رملة منها أخبرت بدنو أجل الرمل المتبقي من الطابق العلوي وكل حبة رمل تخبرك أن الوقت يمضي والعمر ينقضي، لا تتوقف حين تقول لها توقفي لتحدث في نفسك هالة وكأن بين الزمان والمكان تواطؤ عجيب. قيل أن الليل ستار يستر عيوب الناس لكنه يفضح حقائقنا يفضح مشاعرنا وكذبنا وخبايانا، فنعترف نقر نخرج مكنونات أنفسنا  نقول ما لا نجرؤ على التفكير به في النهار، نبوح بأي شيئ ليسطع الفجر فننسى كل شيئ، ثم نمضي لحالنا. فينسى كل منهم وجعه ويمضي في الحياة.. يخبرهم الليل أن لا حزن يبقى ها هو الليل رغم سواده قد اكتسى بثوب النهار تاركا آلاف القصص تتلاشى مع ضوء الشمس، فما من ليل إلا وانقشع وما من فجر إلا وطلع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.