شعار قسم مدونات

رفقاً بنا..

blogs تأمل

أن تنامَ بعد ليلةِ قصفٍ داميةٍ على إحدى المدنِ القريبة، تلك التي كنتَ تزورُوها من حين إلى آخر عندما كانت ملاذاً لطفولةٍ سعيدة مرتقبة مستقبلاً مزهراً، وتستيقظ من تلك الليلةِ بحثاً عن مكانٍ تسافرُ إليه في العطلةِ الصيفية، للاستمتاعِ والترويح عن النفسِ من همومٍ كانت تعتريك قسراً، لتقضي وقتاً تستجمّ فيه. أن تدركَ أن بيوتاً على مقربةٍ منك قد نام أصحابُها بلا طعامٍ أو شراب، وتستيقظ من تلك الليلةِ على مائدة الإفطارِ لتتناول كلّ ما لذَّ وطاب من مأكلٍ ومشرب..

 

أن تبدأ نهارك بمشاهدة فيديو على الفيسبوك، فيُظهر لك منظرَ الدم ملطِّخاً الوجوه، والأجساد الصغيرة، فتقابل الموتَ بأبشعِ صوره، أن ترتجفُ يدُيك وأنت خلفَ شاشة هاتفك، وتستمعُ إلى صراخ أطفالٍ تغتال أرواحهم في جوف النهارِ، يتحدثون أمام كاميرات العالم، وتشاهدهم أنت لفضولك -فضولاً لا أكثر- وبعدها بدقائق تبدأ مهمتُك بأن تحادث بشراً بأرواحٍ كأرواحهِم، وأجسادٍ كأجسادِهم..

 

أن تكونَ لك قدرةُ التفريق بين الحقيقةِ والخيالِ أمر، وبين الحقيقة والحقيقة أمر أكثر خطورة وظلماً.. أن تدرك أن الحياة التي تعيشُها مجردُ خطوات عن نهايتك، أو نهاية العالم، وتقف كلّ يوم تريد أن تجد حلّاً أو تصنع فرْقاً، أو تحلقَ بأحلامك مقاوماً كلّ أشكالِ التحديات التي تعترض طريقك.. أن تقفَ في وجه الحياة صامداً؛ لأنك مطالب أن تحياها كما هي رغماً عنك. يا لتلك المفارقة..

 

الوطنُ هو جزيرة الذكريات التي لا تغرقها أعتى الأمواج، هو حبّات الرمل التي تتشكل منها ملامحنا، ومشاعرنا، وحاضرنا، ومستقبلنا، وقبل ذلك كلّه أحلامنا..

أقف في غرفة صفي، الساعة الحادية عشرة ظهراً، الشمس تتمايل خلفَ الغيوم، فتظهر حيناً، وتختفي أحياناً، وكأنما أرهقها الرمض، أنظر إلى وجوه طلبتي، لا أستطيعُ تفسيرَها، صمتٌ غريب يسودُ قاعاتي منذ مدة، وأنا أحاول ضِعف ما كنت أفعلُ في جذب انتباههم، أو إضحاكهم، أو حتى في جعلهم يخرجون من صمتِهم العجيب هذا، رفعتُ نبرة صوتي، كثّفت نشاطاتِ صفي، ونوعت في وظائفي كمدرسة، فأصبحت أتنقلُ بينهم، أو أسألُهم عن حالهم، وفي تلك الحصةِ تطرقت إلى السؤالِ عن بلدانهم. وتذكرت أستاذاً جامعيّاً طلب منّا يوماً-وقد كنا سبعين طالبًا داخل غرفة الصف- أن نعرّف الوطن، أو نعطيه وصفاً..

 

ففعلت كما فعل، طلبتُ من طلبتي أن يصِفوا لي الوطن، فلم يجرؤ أحدٌ على وصفه، وطبّق الصمتُ للحظات على القاعة، حتى بكى البعض شوقاً أو شعوراً بالإنسانية.. قصصتُ ورقةً من دفتري، كتبت عليها: الوطنُ هو جزيرة الذكريات التي لا تغرقها أعتى الأمواج، هو حبّات الرمل التي تتشكل منها ملامحنا، ومشاعرنا، وحاضرنا، ومستقبلنا، وقبل ذلك كلّه أحلامنا..

 

قرأتها لهم، وفوجئت بعدها بالإجاباتِ التي تدفقت من كلّ حدَب وصوب، وأنا التي ظننت أن لا أهميةَ لسؤالٍ كهذا في جامعة تضمّ العديد من الطلبة من بيئاتٍ وبلدان مختلفة، لم أكن أُدرك كم يتشابهون في آلامهم، وحاضرهم، ومشاعرهم، وأوطانِهم المنكوبة، ضجّت الأصوات في غرفةِ صفي، فأخذنا الحديث..

 

فتذكرت قول مايا آنجلو: "لقد تعلمت أن الآخرين يمكن أن ينسوا ما قلت، ما فعلت، ولكن أبداً لا يمكنُ أن ينسوا كيف جعلتهم يشعرون". لن أنسى ولا أعتقد أن أحداً سينسى حديثنا هذا، في غرفةٍ تضم آلامَ وأحلامَ ومخاوفَ كلّ واحدٍ منّا، وكم تتشابه أينما كنّا من أيّ قطر عربي. رفقاً بشبابنا، بمشاعرنا، بأرواحنا، رفقاً بنا؛ فوالله ما عادت قلوبُنا تحتملُ كلّ ذلك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.