شعار قسم مدونات

القاهرة.. تلك المدينة التي تقهرنا

blogs القاهرة

كانت صورة جميلة وعلى قدر كبير من التنسيق والنظام والوضوح، شاركتها إحدى الأصدقاء على صفحتها فيس بوك، مكتوب أو بمعنى أدق مرسوم فيها كلمة واحدة "القاهرة"، وقد تكون صديقتي هذه لم تقصد ذلك المعنى الذي وصلني، ولكنني رأيت قهر القاهرة في هذه الصورة، أو لعلّي طبعت شعوري على الصورة بشكل تلقائي، بلون أحمر يحمل معنى التحذير والخطر من هذه المدينة رُسمت الكلمة، بخطوط حادة تقسو على أغلب من يلجؤون إليها، ولنوع آخر من الناس أقل ظهورًا تبدو أقل قهرًا وأكثر نعومة وتصالحًا، بازدحام تفاصيلها حتى تكاد تفقد نفسك فيها، هكذا تقهرنا القاهرة.

منذ 8 سنوات كنت أعمل في جنوب سيناء، وظللت هناك لأكثر من 4 سنوات، اعتادت نفسي تلك الطبيعة من سماء وجبال وماء وهدوء وسعة ظاهرة وباطنة، حتى أنني كنت عندما أتركها في إجازة إلى عائلتي لا أتحمّل الأيام حتى أعود مرة أخرى، وكأن المستقر هناك، وذهابي إلى عائلتي -برغم أنهم عائلتي- أمر عارض ثم أعود إلى مكاني الذي اعتدت عليه، لم أكن هناك للاستجمام بل كنت أعمل بالطبع، ولم يكن المقابل المادي الذي أناله بالكثير بل بالعكس، ولكن وجدت هناك ما فقدته في سواه، أشياء كثيرة تحملها نفسي تجاه تلك الأيام لا أكاد أحصيها بشكل محدد، لا أعلم تحديدًا، هل لأن الأيام هناك كانت أخف ألمًا، أم لأن الناس هناك كانوا أقل أذى، أم لأن الجو والطبيعة هناك كانت أقل ضيقًا وأكثر سعة، أم بسبب كل هذه الأسباب مجتمعة.

تظل أحد أكثر عوامل القهر بالقاهرة هي وسائل المواصلات والتنقل فيها، أتذكر تلك المرة التي أرسلت فيها مقال مطبوع إلى روز اليوسف، كان أ. عبد الله كمال حينها هو رئيس التحرير، فأعجبه مقال كتبته يحمل خواطر طالب في المرحلة الثانوية، وحدد موعد لمقابلته هناك، وبرغم أنني خرجت قبل الموعد بوقت كافي ولكنني تأخرت على الموعد بسبب سوء المواصلات، فكانت تلك أول مرة تقهرني فيها القاهرة عندما اعتمدت على طرقها وظننت أن الوقت فيها يمكن حسابه وتوقّعه، ولكن اتضح أن طرق القاهرة لها حسابات أخرى بعيدة عن المنطق والتخطيط، وبالطبع لم أقابله لتأخري عن الموعد، ولك أن تتخيل طالب في المرحلة الثانوية متعلّق بالكتابة كان قاب قوسين أو أدنى من الانضمام إلى مدرسة روز اليوسف والتي كنت أعشقها في ذلك الحين، بغض النظر عن تغيّر وجهة نظري ووضوح الصورة الزائفة لمعظم المؤسسات الصحفية البائسة في مصر فيما بعد، ولكن قد علّمني ذلك درسًا لم أنسه ما دمت حيًا.

تتوالى دروس القهر في القاهرة، سواء من طبيعتها أو من أهلها، حتى أنك بعد فترة معينة، تكاد تنظر إلى الشخص فتعرف أنه ليس من قاطني القاهرة، أو أنه لم يُقهر بعد بالقدر الكافي

ذلك الصفاء النفسي، عندما كنت أسير مسافة في منطقة صحراوية عند الفجر لأذهب إلى مسجد المصطفى في شرم الشيخ من المكان الذي كنت أعمل به، حينها كان يهيم الفكر وتصفو النفس وتُنسج أحلام وآمال بسيطة، حينها فقط، في ذلك الطريق وذلك الوقت، كنت أشعر أنه على هذه الأرض ما يستحق الحياة، نعم لم يكن الفكر قد نضج، وكان هناك قدر كبير من السذاجة والبساطة، ولكن كان هناك أيضًا قدر أقل من الإحباط والحزن، كان العقل أقل ازدحامًا وكانت الأفكار أقل ثرثرة، لا أعلم حقًا هل لو ذهبت هناك الآن وكررت نفس التجربة عند الفجر، هل سأشعر بنفس الشعور؟ لا أعلم حقًا.

حينما عملت بالقاهرة لمدة شهر واحد أثناء الإجازة الصيفية في مرحلة المدرسة، أرسلني صاحب المحل الذي كنت أعمل معه إلى منطقة لم أكن أتخيل حينها أنها موجودة، وأن وجودها هو نوع من القصص الدرامية في الأفلام فقط، أشار إلى ملئ بالمقابر، وأخبرني بكل أريحية أن هناك شخص يُدعى فلان الفلاني اذهب إليه وأخبره يملأ لك اسطوانة الغاز هذه، كنت أظن أن ذلك الشخص يعيش في منزل أو غرفة بجانب المقابر، وليس في المقابر نفسها، دخلت المقابر، فوجدت الأحياء فيها ربما أكثر من الأموات، رجال ونساء وأطفال يلعبون وباعة، وحياة كاملة داخل مساكن الموتى، كنت أتعجب من الناس كيف يتحركون آمنين، كنت أتمنى أن أخبرهم أن يُخففوا من حركتهم وضرب أقدامهم على الأرض، كنت أتحرّك في خفة وخجل خشية أدهس عظام شخص ميت أسفل مني، وما إن خرجت من عالم التراب المقهور حتى عُدت إلى عالم الأسفلت المقهور أيضًا، فلا أحد ينجو من قهرها.

وتتوالى دروس القهر في القاهرة، سواء من طبيعتها أو من أهلها، حتى أنك بعد فترة معينة، تكاد تنظر إلى الشخص فتعرف أنه ليس من قاطني القاهرة، أو أنه لا يزال لم يُقهر بعد بالقدر الكافي الذي يطبع على وجهه ذلك الطابع القاهري المُحزن. حينما كتب تعليقًا لصاحبة الصورة أن القاهرة تقهر من فيها، كتبت ردًا على تعليقي هذا أنها كانت تحاول أن تطرد هذا المعنى أثناء عملها فيها، ولكن لعلها لم تستطع ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.