شعار قسم مدونات

الصحافة والديمقراطية.. بين واقعٍ مقيد وقلم حر

blogs الصحافة

لم تقتصر الديمقراطية يوما على بقعة صغيرة من تلك المفاهيم البسيطة المتشعبة، كما يتصور البعض أحيانا، هي أكبر من ذاك بكثير، ولا يمكن الإتيان بها من دون حوار صادق ومناقشة منطقية حرة، أما بالنسبة لتلك المنابر التي نشاهدها اليوم وكل يوم، أغربت بأعيينا بعيدا عن الممارسة الحقيقية للديمقراطية، قد لا تتخلل في أدمغتنا الصغيرة العلاقة المشتركة بين الصحافة والديمقراطية وولادة الثانية من رحم الأولى، حيث لا ينبغي للأم أن تدافع عن فلذة كبدها إلا بالحق، وهذا ما تقدمه الصحافة الديمقراطية الحقيقية اليوم في واقع استبدادي وحكومات ديكتاتورية.

في ظل الأوضاع السياسية الهشة اليوم، وصعوبة الوصول إلى أقرب مسافة من الحقيقة، بسبب تعدد الوسائل الحديثة، وكثرة المصادر المزيفة والتحيز العنيف، والتوجه نحو ديكتاتورية الأنظمة، غدت الشعوب تائهة في نفق عميق مليء بالشوائب الكاذبة، لا ترى النور أبدا، إضافة إلى تصديقها للزيف، والرضى بالسكوت المستميت، كي تكسب حياة آمنة كما يسميها البعض، هي ديماغوجيا لعينة، تكسب خوف الشعوب للبقاء في السلطة، وهذا الذي تكشفه الصحافة الحرة، التي لا يمكن لأي نظام ظالم أن يقبل بوجوده في ساحتها، ومع كل هذا وذاك نجد العديد من المنصات الإعلامية الحرة التي تكشف خدع ولعب الأنظمة بالأدلة والبراهين المنطقية، والواقعية أيضا.

 

لا زلنا قادرينَ على تقديم الحقيقة، حتى ولو كانت على حساب أرواحنا وحياتنا، مقابل الاستمتاع ولو بالقليل الكثير من حقوق تكفل لنا العيش كما غيرنا

حاجاتنا الأساسية اليوم لم تكن فقط في لقمة عيش نفكر كيف نكسبها، ولم تكن فقط في الحصول على علاج مجاني ولا حتى بمقعد دراسي ولا بوظيفة مرموقة، ما فائدة كل هذا وذاك من دون صحافة ديمقراطية حرة آمنة؟ تستطيع قول الحق فيها دون خوف أو غطاء وجه مزيف، ما فائدة أن تعيش بكل الرفاه ذاك وأنت بين قيود ملموسة غير مرئية تحيط بك من كل جانب؟ 

كيف يمكننا الفصل بين الصحافة والديمقراطية وهما وجهان لعملة واحدة؟ وكيف للصحافة الديمقراطية أن تكون تحت رحمة أنظمة ظالمة؟ ما كل تلك التضييقات في ظل الأوضاع الملتهبة اليوم على العمل الصحفي الذي لطالما كرس نفسه لكشف الحقائق السامية في اليمن وسوريا وليبيا وفلسطين حتى؟ كيف تعد الدول حرة مع تلك القوانين العارمة التي تمنع التحدث أو كشف المستور؟ ولو تحدثنا قليلا عن شبكات التواصل الاجتماعي اليوم التي ومع كل الأسف أحدثت خرقا كبيرا في تشويه كل ما يحدث اليوم، إضافة إلى تبنيها للقذف والذم حتى غدت ساحة معركة؟ أما كان من الأسهل لمستخدميها استغلالها بالطريقة الصحيحة لصالح حقوقهم المنسية وقضاياهم الطاهرة؟! ماذا عن مناطق يكثر فيها الدمار والخراب لا عيش فيها ولا حياة؟ لم نسمع عنها شيئا ولم نعلم حتى بما يحدث فيها من طمس للروح ونشوة الاستبداد؟

 ما زلت أؤمن أننا ما زلنا قادرين على تقديم الحقيقة حتى ولو كانت على حساب أرواحنا وحياتنا، مقابل الاستمتاع ولو بالقليل الكثير من حقوق تكفل لنا العيش كما غيرنا، فلا فرق بين الموت أو العيش داخل قوقعة التهديد الجائح والترصد الواقع من قبل صناع القرار ومن أمْلت عليهم أنفسهم تسييس الصحافة والديمقراطية لصالح أنفسهم، التحديات صعبة لكنها ليست مستحيلة في ظل تلك الأوضاع البالية من قوانين مبطنة وتضييق الحكومات والانظمة إضافة إلى توجهات بعض المؤسسات الإعلامية التي تسيطر على الصحفيين والصحفييات لصالح أنفسهم لا لصالح حفظ حقوق الإنسان السامية، لكن لو كانت تلك الكوادر البشرية مؤهلة غير ضعيفة لما كان لتلك المؤسسات والحكومات أن تقودهم لما تريد. 

تأتي أهمية التوعية في الصحافة الديمقراطية اليوم بسبب الفهم غير الدقيق للصحافة بشكل عام وللصحافة الديمقراطية بشكل خاص من قبل الصحفيين أنفسهم وغياب النظام الإعلامي الديمقراطي القوي في بنيته من الأساس بعيدا عن الملكية الخاصة والتجارية، وسيطرة توجهات المؤسسات الصحفية على الصحفيين والعاملين فيها، وانخفاض في المهنية الصادقة لحفظ مستوى الصحافة الديمقراطية وقلة في التأهيل الصحيح للكوادر البشرية المتاحة إضافة إلى عدم الربط الواضح بين الصحافة التقليدية والتكنولوجية الحديثة واستغلالها بالشكل الصحيح لتعزيز قدرة الصحفيين وحتى الأفراد أنفسهم على نشر الأحداث والوقائع الصحيحة ووجود الجمهور السلبي الكبير.

 

إن إيجاد منبر للقيام بتوعية صحيحة و صلبة للمفاهيم الصحفية والديمقراطية تقودنا للوصول إلى اجتهاد واضح في العمل الصحفي المهني، يقودنا إلى مكان آمن وحر يسعى إلى الفصل بين النور والظلام
إن إيجاد منبر للقيام بتوعية صحيحة و صلبة للمفاهيم الصحفية والديمقراطية تقودنا للوصول إلى اجتهاد واضح في العمل الصحفي المهني، يقودنا إلى مكان آمن وحر يسعى إلى الفصل بين النور والظلام
 

إضافة إلى زيادة خطاب الكراهية على منصات الإعلام البديل دون دمجه واستثماره لتحويله لجمهور فعال وايجابي، وزيادة خطاب المحبة في شبكات التواصل الاجتماعي والحاجة الماسة للإعلام النسوي والحوار المتنوع لكلا الجنسين وعدم التحيز للذكورية، إلى جانب التطور الكبير للإعلام البديل وعدم ربطه مع الوسائل التقليدية بطرق مبتكرة خصوصا  في مناطق النزاعات والتوتر وأماكن تواجد اللاجئين إلى جانب التضييق الواضح وغير المفهوم من قبل الحكومات وصناع القرار على المؤسسات الصحفية واجتياح القوانين المبطنة الديكتاتورية وحاجتنا لهيئة مستقلة حرة بعيدة كل البعد عن التحيز والديكتاتورية وتوجهات الحكومات والملكيات الخاصة لتعزيز الصحافة الديمقراطية، والقيام برقابة صلبة على المؤسسات الصحفية وحمايتها.

كل تلك الضروريات تجعلنا نقف وقفة صحيحة لتحقيق أهداف لطالما كانت عثرة بسيطة أمام الصحافة الديمقراطية في يومنا هذا، لبيان العلاقة التكاملية للصحافة والديمقراطية، والبدء بالمساوة داخل البيئة الصحفية وممارسة الحقوق البشرية بشكل جاد، ثم تطبيقه بين أفراد المجتمع، لإعادة تحرير النفس الصحفي الحر الذي قيد لبعض من الوقت، ومع التحديات التي قد تنشأ من قلة في البيانات والمعلومات ونقص في الجانب العملي.

 

لكن المنهجية المتبعة في صياغة البحث وعمل الاحصائيات والاستبيانات الرقمية بوجه حديث تساعد على اشراك عينة الفحص والحصول على البيانات بطريقة سلسة وسهلة، إضافة إلى استغلال التكنولوجيا الحديثة في الربط بين تلك البيانات من الجانب النظري والجانب العملي. إن إيجاد منبر للقيام بتوعية صحيحة وصلبة للمفاهيم الصحفية والديمقراطية تقودنا للوصول إلى اجتهاد واضح في العمل الصحفي المهني، يقودنا إلى مكان آمن وحر يسعى إلى الفصل بين النور والظلام والحقيقة والسراب، ويكشف الباطن، هو أمر ليس بهين في المؤسسات الصحفية لكنه أيضا لن يكون مستحيلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.