شعار قسم مدونات

كيف نشعر بالله؟

blogs لحظة تأمل

تطرح هذه المقالة سؤالا من بين الأسئلة المؤرقة التي تشغل بال الإنسان وتقض مضجعه حول الله أو علة وجوده في هذا الكون. وأمام محاولة فهم هذا السؤال، تتبدى لنا أهمية هذا الطرح، إذ يتجاوز الفهم المتداول لكلمة الإيمان إلى فهم أعمق وأقصد، يتناول مفهوم الإيمان من جهة ما ينتج عنه من إحساس أو شعور يدفع إلى العمل الصالح دفعا، ويردع الإنسان عن الفساد والإفساد ردعا. من هنا بدا لنا أنه من الأولى والأجدى تحويل وجهة السؤال من: كيف نؤمن بالله؟ إلى سؤال لا يختلف عنه كثيرا من حيث المضمون. وإن كان يلقي الضوء أكثر على مفهوم الإيمان، ويقرب المسألة إلى الأذهان، خاصة وأننا أصبحنا في زمن لا نشكو فيه من مرض كما نشكو من ضعف في الإيمان، لذلك من المشروع أن نسأل: كيف نشعر بالله؟

وتجدر الإشارة في مستهل هذا التحليل إلى القول بأننا سنحاول معالجة هذا السؤال في إطار العقيدة الإسلامية دون النظر في غيرها من العقائد الأخرى، معتمدين في ذلك على المصادر التأسيسية للدين الإسلامي وهي القرآن والسنة الصحيحة. لا يكاد يخفى مدى الأهمية الكبرى والمنزلة العظمى التي أولتها المصادر الإسلامية للوجدان أو القلب ودوره في تكوين المعرفة والوصول إلى الله. ففي الحديث نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". ويمكن أن نفهم تنبيهه عليه الصلاة والسلام على خطورة القلب من الجهة المادية والمعنوية على حد سواء، وإن كان أقرب إلى المعنى المادي لكلمة القلب.

وأما إذا رمنا تعريف القلب من الجهة المعنوية للكلمة، أي بما هو أداة معرفية مهمتها البحث عن الذات الإلهية. فالقرآن يزخر بالآيات التي تشيد بهذا الدور، وتؤكد على أهميته في تحصيل المعرفة الإلهية. ومن بين هذه الآيات، قوله تعالى في سورة الحج "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ". إذن فعلى غرار الحس والعقل نجد أنفسنا مع أداة معرفية حساسة للغاية، وخاصة بعالم بعيد كل البعد عن عالم المحسوسات والمعقولات. لنتحدث عن عالم جديد يكتشفه القلب ويدركه إدراكا مباشرا بدون مقدمات. هذا العالم الذي يقف فيه الحس والعقل موقفا واحدا في العجز عن الإدراك، وهذا ابن خلدون يطنب في بيان حدود العقل وعجزه، فيقول "إن العقل ميزان صحيح وأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة الغيب والصفات الإلاهية، لأن ذلك الطمع محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال.. الخ."

هذه الذات التي تحققت، ورأت في نفسها جمال وجلال خالقها في ما أودعه فيها من ملكات واستعدادات كثيرة، يجمعها قوله تعالى
هذه الذات التي تحققت، ورأت في نفسها جمال وجلال خالقها في ما أودعه فيها من ملكات واستعدادات كثيرة، يجمعها قوله تعالى "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، لتذوب شوقا إليه
 

مما يفتح الباب على مصراعيه للقلب، ليقوم بدوره في التعرف على أركان هذا العالم. وكلما كان قلب العبد طاهرا نقيا كلما نزلت به وحفته الحقائق الإيمانية، فهو بمثابة المرآة العاكسة للأنوار الإلهية ما سهر صاحبها على نقائها وحسن نظافتها، لأن إهمال القلب، هذه "اللطيفة الذاكرة العارفة" كما يقول ابو حامد الغزالي، وتجاهل مطلبها في الاتصال بالله، قد يؤدي إلى فسادها وانغلاق نوافذها عن إبصار الحقيقة، ولذلك يقول تعالى "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا".

فالتدبر والتفكر والذكر من أجل وظائف القلب وأوكدها في تحقيق الإيمان بالله، حيث يقول تعالى واصفا حال أصحاب القلوب الحية، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". ليكون الإيمان نتاج مجهود وسعي الإنسان في تحقيقه، وبذلك يؤتي إيمانه الغلة والثمار، وكلما أخذ الإنسان بأسباب الترقي في مدارج الإيمان كلما منحه ذاك الإيمان القوة والثبات، وكلما أشع نورا في شعاب الحياة.

إن غاية ما نصبو إليه في هذه الأسطر هو القول بأن الله قد أوجد في الإنسان ملكات عديدة وهيأه بالاستعدادات اللازمة لمعرفته، والسير في سبيل إدراك قدرته وعظمته اللامتناهية. ولنضرب مثالا على ذلك، ففي صفة السمع مثلا، نجد أن الله من صفاته أنه السميع، والإنسان يسمع أيضا ولكن بسمع محدود، فهو انطلاقا من تجربة السمع المحدودة هذه يمكنه التفكير في صاحب السمع المطلق. وهذه الطريقة تعتبر من أرقى السبل في تحقيق معرفة إيمانية، لا أقول تؤمن بالله فحسب وإنما تشعر بالله، لأنها تقوم أساسا على التجربة وتنطلق من عمق الذات الإنسانية، حيث يقول تعالى "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ".

إن هذه الذات التي تحققت ورأت في نفسها جمال وجلال خالقها في ما أودعه فيها من ملكات واستعدادات كثيرة، يجمعها قوله تعالى "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، لتذوب شوقا إليه، كيف لا وهي تقف على أثر الطابع، فما ظنك بذات الطابع سبحانه وتعالى؟ ومما يحسن بنا اختتام هذه الكلمة به، هو القول بأننا وإن كنا لا نستطيع أن نعرف الله عقلا، ونعجز عن إدراكه، فإننا نشعر به، ونشهده قائما على هذا الكون بأسره، خلقا وتدبيرا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.