شعار قسم مدونات

تحت ظل آية (4)

blogs الصلاة

"وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ۚ"

"وَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ كُلِّ سَمَاء تَكْلِيف خَاص"

– فخر الدين الرازي

 

قد لا تكونُ هي صاحِبَة الغيث، ولا حاملَةَ سَحابِهِ المُثقَل إلى الأرض الجدباء المُقفِرَة، لكنّها قد تعلوها مَرتبة وقُربا مِن الله تعالى، ذلك أنّ لكلِّ سَماء حكمة ومغزى، وغاية من خلقِها هناك فوقَ كذا وتحتَ كذا، وقد لا يكونُ لها شَرَفُ إيصالِ الماء إلى محلّه ولا يكونُ لها رؤيةُ الثمار والأشجار والنتائج والمحاصيل والأنهار.

 

لكنّها تكون قد قامَت بشطرها من المهمة على أكمَل وجه وثوابُها على الله، فلا يمكنُ لكل السماوات أن تكون سَماء دنيا، ولا يمكنُ لها جميعا أن تكون عُليا، ولا يكونُ لها أن تتوسّط جُملة واحِدَة؛ بَل لكلِّ واحدة منها وظيفتُها التي لا تكتملُ سابِقَتها ولا تكونُ لاحِقَتُها إلّا بِها، فاثبُت تنبُت ولا تبرَح ثغرَك حتى تسُدّه، ولا تستَعجِل النزولَ لجَمعِ الغنيمَة فتؤتى الرسالة من قِبَلِ تلَّتِك، "وإذا أردتَ أن تعرِفَ عند الله مقامَك فانُظر في أي شيء -وتَلّة ووظيفَة وسماء- أقامَك".

 

نظرا لا يتعلّق بالمظهر والشكل والقالبِ الخارجيّ للوظيفة، ولكن لحجم ارتباطِك الوثيق بما تسعى إليه ودرجة إخلاصك في البذل من أجل تحقيقه وعمق قناعتك بالتموضع فيه والمرابطةِ في تلّتِه، قناعة لا تهتز بتأخُّر الثمار ولا بالخضوع للمقارنات مع الآخرين مِن أهل الميادين والتلال الأخرى. وفقدان حساسية الموقع والجهل بخاصيّة الوظيفة وميزة الثغر وإلغاء ما يميّزه ويجعله مختلفا عن الميادين الأخرى وأهلها يؤدي إلى الانسحاب والاستقالة منه والسعي للتطابق مع الآخرين رغبة في تقمّص وظائفهم الموسومة بالرفعة، أو ما يُتعارف على كونِه صفةً للنجاح وصفقة رابحة لتحصيله والاتّصاف به، وذلك هزيمة نفسية عظيمة تؤدي إلى هزائم عظمى تقع على المجموعة، إذ تنكشف ثغورها للرياح وتتعرّض للترنّح ثم السقوط عندما تخلو من المرابطين فيها.

 

سنبقى متمايزين ومتفاضلين وفي ثغور متباعدة مختلفة ولكن الشيء الوحيد الذي يمكننا الاحتكام إليه والذي سيكون عادلا بيننا محيطا بكامل حيثياتنا وتفاصيل استطاعتنا ورغباتنا وقراراتنا هو التقوى

كما حدث في غزوة أحد عندما قرّر بعض الرماة أنّ البقاء في مكانهم ذلك والالتزام بمهمتهم تلك لم يعد ضروريا. فالمحظوظون هناك يجمعون الغنائم والنصر قد تحقّق، وما مكوثهم مرابطين في تلّة الرّماة سوى جهل بالمصلحة ومضيعة عظيمة لِما يمكن لهم تحصيله لو أنّهم تخلصّوا من أقواسهم وتركوا أماكنهم وانضموا إلى الناجحين بالأسفل، ما أدّى إلى اختلال التوازن الذي سبّبَ نتيجة يعرفها الجميع.

 

لأنَّ دنيا الناس اليوم حسبَ زيجمونت باومن قد أصبحت سوقا كبيرة للاستهلاك، أصبحَ النجاح ومواصفاته إحدى سلعها، التي تنطبق عليها شروط السلع الموجهة للاستهلاك الجماعي السريع، السّحر الجذّاب والرغبة الإدمانية القسرية التي تشعرك بالاضطرار وغياب البدائل، فيجري الناس كلهم في مضمار واحد متسابقين لنيل لقب واحد، للظَّفر بصفة وميدالية ذات لون واحد، وإلا فالعاجز عن تحقيق ذلك فاشل لا ينتمي إلى العصر، ثم ندخل في مرحلة جلد الذات والاكتئاب والاستجوابات الطويلة للنفس "أين أخطأتُ، ولماذا لم أصِل، وما الذي ينقصني، وكيف يمكنني فعل ذلك؟ وأنّى لي أن أصبح مثلهم !. وهي معادلة معقدة لا تنفك تخرج بمجاهيل جديدة لأنّك لن تصل أبدا إلى مرحلة الرضا فهنالك دائما ما هو ممتنع عنك، ومن هو أنجح وأشهر منك وفق تلك المقاييس، ما يُبقي للمعادلة حلا واحد لا ثاني له أن تتوقّف عن الاعتقاد بأنّك مضطّر لتكون مثل أحد غيرِك، فمن قال إنّ النجاح له لون واحد وطريق واحد.

جعلنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف، ولن يكون لذلك التعارف أي قيمة إذا كنا مجموعة من النسخ الكربونية بمضامين متطابقة تحمل أرقاما وأسماء مختلفة، فالاختلاف في مشاربنا وغاياتنا وطرقنا التي نسلكها والنهايات التي نبلغها وأساليبنا في الوصول إليها، هو الشيء الوحيد الذي يجعل تعارفنا ذا قيمة ومغزى، وهو الأمر الذي لن يزول مهما تغيرت شروط العصر، لأننا لم نُصبِح كذلك بإرادتنا بل جُعلنا مختلفين ولذلك خُلِقنا.

 

ثم سنبقى متمايزين ومتفاضلين وفي ثغور متباعدة مختلفة، ولكن الشيء الوحيد الذي يمكننا الاحتكام إليه والذي سيكون عادلا بيننا محيطا بكامل حيثياتنا وتفاصيل استطاعتنا ورغباتنا وقراراتنا هو التقوى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ "، لأننا لو انطلقنا من نفس المكان بنفس الشروط النظامية وذات الإمكانيات لكان عادلا أن يكون أكرمنا أسبقنا، لكن أكرمنا أتقانا لأنّ مضاميرنا تختلف والسبق الحقيقي فيها لا يكون بمنظور المراقب البعيد، بل لشيء وقرَ في الصدر، فالتقدير حينها ليس من صلاحيات أحد.

ولا يمكن فيه للمتسابق في المسافات المتوسطة أن يُباهي صاحبَه المتخصص في الماراتون لأنه وصل قبله، ولا يمكنه الشعور بالأسى والخيبة لأنّه فشل في مجاراة الآخرِ الذي أنهى قبلَهُ سباقه في تخصص المائة متر، لأنّها عوالم مختلفة رغم أنّنا في عالم السباق فقط، فكيف إذا رفع أحدنا بصره إلى الملعب كله وإلى خارجه ليرى باقي المضامير التي تعج بمئات المسابقات الأخرى التي لا يحتاج أكثرها إلى الجري، وقد تعجز عن مجاراة أصحابها وإن كُنت أسرعَ رجل في العالم.

كما سيفشل مايكل فيليبس في كسر أي إرسالٍ لروجيرفيدرر، وسيهرب كلاهما إلى الحبال بعد أول لكمةٍ من محمد علي كلاي، كما سيعجز ليبرون جيمس عن تجاوز كاراباتيتش، وليونيل ميسي عن مراوغة أي لاعب ريجبي، وتايغروودز عن التسديد مثل جونينهو، فهل يتحوّل أحدهم إلى مجرّد فاشل لعجزِه عن مشابهة الآخر؟. لذلك لا تقلّل من قيمة إنجازك ولا تتنكّر لما بذلته لأجل تحقيقه فقط لأنّ إنجازات غيرك تُظهره هيّنا ضئيلا، ولا تعجل للاعتقاد بأنّ عدمَ الوصول وإخفاقك في تجسيد حلم وتحقيق غاية ما بالشكل المُراد دليلُ رفض لك وصدٍ عنك ورسالة تُجيز لك الاستسلام والتخلّي، فذلك التأنيب إذا صدَقت صوتُ ترغيب وتحد يحثّك على القُدوم أكثر والتنقيب أعمَق فقد تكون على بُعدِ شوكَة أخيرة من العُنقود.

 

إن الله يَقيسُ ما تبذل بما تملِك وتستطيع أن تبذُله لا بما استطاعَ غيرُك أن يُنفِقه أو يفعَله من صدقات أو أعمال أو مشاريع أو إنجازات ونجاحات باهِرة، فليسَ الله بظلّام للعبيد
إن الله يَقيسُ ما تبذل بما تملِك وتستطيع أن تبذُله لا بما استطاعَ غيرُك أن يُنفِقه أو يفعَله من صدقات أو أعمال أو مشاريع أو إنجازات ونجاحات باهِرة، فليسَ الله بظلّام للعبيد
 

فالعالمُ كله ساحة لتحقيق رسالتك وخلافتك، أعد التموضع أو تَحدَّ حُفرتَك فكلّ الفضاء مجال رَحب لتكليفك، غيرَ أنّه كله حجّة عليك إذا قررتَ الجلوس والاكتفاء بلعنَ واقعك، "أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ "، وكذلك أرضُ الفُرَص وميادين العمل ونوافذ الأمل..

 

وقد يقال: "إنّ الله غَنيٌ عَن صَاعِ أبي عَقِيل" التي قالَها ويَقولُها الساخِرون المُثبّطون المُتربّصون بالمُبادرين الراغبِين في تركِ الأثر والبصمة المُختلفة وإن كانت شفّافة غيرَ ذاتِ وزن مادي مُعتَبر بالميزان الأرضي، تَراهُم يُسقِطون معايير الأرض على أعمالِ قَوم يريدونَها لوجهِ الله فلا يستقيمُ أن توزَن بالصاع والحفنَة والمُد، وقد يقولها الواحد منّا لنفسه استصغارا لما قام به وقدّمه، كأن يحدّث نفسَه قائلا "إنّ المجتمع لن يتغيّر إذا فعلتُ أو أقلعتُ عن الفعل، هل حررتُ المسجدَ الأقصى؟ لن أبلُغ أبدا ما حقّقه فُلان".

إن الله يَقيسُ ما تبذل بما تملِك وتستطيع أن تبذُله لا بما استطاعَ غيرُك أن يُنفِقه أو يفعَله من صدقات أو أعمال أو مشاريع أو إنجازات ونجاحات باهِرة، فليسَ الله بظلّامٍ للعبيد، ولا يكلّف الله نفسا إلا وسعَها. ولَدِرهم يُعطيه ذو دِرهَمين عن طِيبِ خاطِر أحبُّ إلى الله مِن ألفِ ألفِ دِرهم ينزِلُ عنها صاحبُ الثروة والملايين على مَضض، ذلك أنّ القياس يكون بما تتيحه الاستطاعَة ويدفعه الإخلاصِ ومُجاهَدةِ النفسِ والظرفِ والحاجَةِ، لأجلِ البذل وتركِ الأثر والإنفاق من الوقتِ والجُهد والقَلب "ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ".

كانت سيدتنا عائشة إذا أرادت أن تتصدّقَ بالدرهم عَطّرته فإذا سُئلت عَن مغزى ذلك قالت إنّها تؤمن بأنّه إذا غادرَ يدها أصبحَ في يد الله فلا تشغلُ نفسَها وبَالَها بالحسابِ والأرقام وما الذي يُجديه التصدّق بالدرهم أو شقّ التمرة، فدرهمُها لايقضي أربا ولا يَسدّ حاجة ولا رَمَقا، ولا يُسمن ولا يُغني مِن جُوع، ولا يغيّر العالم، ولا يحرّر الأقصى، ولا يُصلِح البلاد والعِباد ويقلب حالَ المجتمع في رمشَة عَين. كانت تُؤمِن أننا مُكلّفون بِرَمي البذرة وشِقّ التمرَة، وعلى الله شَقّ البَذرَة وخَلق الثَمرَة.

كذلك كان أبو عقَيل رضي الله عنه الذي لم يجد في بيته شيئا ليتصدّق به للجهادِ والإصلاحِ وتغيير المُنكر وإيصالِ الرسالة وتَحقيقِ الاستخلاف والمشاركة في رَفعِ شأنِ الأمة والإسلام والإنسان، إلا صَاعا من تَمر يناسبُ وضعه الاجتماعي وما يحيطُ به من ظروف وحيثيات وعوامِل مؤثرة، ليسَ له ذنب في أكثرها، جعلت ذلك الصّاع المُهمَل عند الناس ذا قيمة عظيمة عنده تجعله يرفعه إلى مقام القربان الذي يرَميه في حِجر رسول الله، الذي رحّب به وأجازه، ثم ثمّنه القرآن وخلّده وباركَ فيه "الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُم". روح العمل أن ترى إخلاصكَ فيه لا خلاصكَ منه، وإشراقَ القَبول لا خطّ الوصول، فقد يكون حرفك الموكل إليك بالرسالة ساكنا أو ضميرا غائبا مُستترا، غيرَ أنّ له محّلا أساسيا في مُجمَلِ الإعراب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.