شعار قسم مدونات

أمريكا وألمانيا.. الكابوس والحلم

مدونات - أميركا وألمانيا
اليوم وبعد عدة أشهر من انتقالي وعائلتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدا إلى مدينة بوسطن، حيث بدأت عملي كباحث مشارك في جامعة هارفرد، أرقى الجامعات الأمريكية، وبعد مضي أكثر من اثني عشر عاما من إقامتي ومعيشتي في ألمانيا الاتحادية، بدأت منذ فترة بسيطة بإجراء مقارنات بين أكبر دولتين من ناحية الاقتصاد، البحث العلمي، التطور التكنولوجي والرقي الحضاري -إن كان من الممكن وصفهما هكذا-.
 
الحلم الأمريكي الذي راودني قبل وصولي إلى ألمانيا منذ ١٢ عشر عاما وخلال العام الأول من مكوثي هناك، حيث قمت بتقديم جميع الامتحانات الأمريكية من "GRE" وغيرها لأستطيع الدخول ضمن برامجهم التعليمية البحثية، تبدد خلال أقل من شهر واحد بعد وصولي إلى هنا. ربما المشكلة تكمن حقيقة بأني قادم من ألمانيا وليس من دولة شرق أوسطية، وهذا ما رجحه الكثيرون ممن سألوني عن انطباعي الأول عن أمريكا. أخبرتهم الحقيقة، وكانوا ممتعضين جدا منها.
 
الحلم الأمريكي الذي يدعيه الأمريكيون أنفسهم، ويتمناه الكثير من المهاجرين ويحاولون تصديقه، لم أر منه أي شيء؛ فالتأمين الصحي الذي يجب أن يكون جزءا من الحلم الأمريكي، يضيع رويدا رويدا ضمن دهاليز الشركات الكبيرة والتعقيدات البيروقراطية القاتلة. الحلم الأمريكي الذي يدعي الرخاء والرفاهية لأصحابه، لم أر منه إلا الفقر المدقع، التسول، الجري الحثيث وراء المعونات والمساعدات، الحكومية منها والخاصة. رأيت كيف تتحكم الكنائس المختلفة بعقول ومصائر البشر عبر توزيع المساعدات لهؤلاء ومنعها عن آخرين.

الكابوس الأمريكي يتضح لي يوما بعد يوم من خلال قيام الآلة الإعلامية عبر القنوات المختلفة بتحويل كل شيء إلى حياة وردية، وتحويل الإنسان هناك إلى كائن استهلاكي يرزح تحت الديون الرهيبة

الحلم الأمريكي الذي يدعي توفير الرخاء بعد إنهاء الخدمة العسكرية أو بعد التقاعد، لم أر منه إلا جنودا وضباطا يعملون كندل في المطاعم أو يستجدون المساعدة في الطرقات من العابرين في الأسواق. أما الشيوخ منهم، فيبحثون عن المعونات هنا وهناك. الحلم الأمريكي الذي يدعي الرفاه والرخاء في الحياة تستغرب أنك لا تستطيع إيجاد شارع واحد يحمل ٥٠٪ من مستوى الشوارع في أوروبا، وحسب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فإن الشوارع في أمريكا "سيئة جدا مقارنة بألمانيا".

 
هذا جزء يسير مما رأيته خلال أشهر بسيطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأفكر؛ لمَ لم يدع الألمان في أي وقت من الأوقات، حتى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مع استجرار العمالة التركية والإيطالية واليونانية للعمل في الاقتصاد الألماني، أن الحلم الألماني هو الحلم السرمدي النهائي؟
 
فالتأمين الصحي متوفر بأسعار بسيطة جدا للجميع، ويشمل كل شيء، ولا تعقيدات بيروقراطية ولا تحديد للأطباء، ولا توفير بالمصاريف العلاجية كما أمريكا. في ألمانيا، التعليم مجاني في الحضانات والمدارس والجامعات. في ألمانيا، التأمينات الاجتماعية توفر الرعاية الصحية والاجتماعية للمتقاعدين ومن خسروا عملهم. مكاتب العمل في ألمانيا تدعم من يرغب بتغيير عمله وتطوير نفسه عبر الدورات والمحاضرات وورش العمل المختلفة. في ألمانيا، يمكن للمهاجرين وحتى اللاجئين أن يعملوا وأن يبنوا أحلامهم بالشكل الذي يرونه مناسبا.
 
بالطبع، هنالك قوانين وأنظمة تحكم الكثير من هذه الأمور، ولكن الحلم الألماني موجود وحقيقي. أما الكابوس الأمريكي فيتوضح لي يوما بعد يوم من خلال قيام الآلة الإعلامية عبر القنوات المختلفة بتحويل كل شيء إلى حياة وردية، وتحويل الإنسان هناك إلى كائن استهلاكي يرزح تحت الديون الرهيبة التي يتقاضاها ملوك وأباطرة المال كأرباح في المقابل.
 

استقبلت ألمانيا وحدها عام ٢٠١٥ أكثر من مليون مهاجر جديد وصل أراضيها، قامت بتعليمهم اللغة الألمانية على حسابها، قامت بدفع أجور شققهم ومنازلهم، قامت بتقديم المساعدات والمعونات الاجتماعية لهم
استقبلت ألمانيا وحدها عام ٢٠١٥ أكثر من مليون مهاجر جديد وصل أراضيها، قامت بتعليمهم اللغة الألمانية على حسابها، قامت بدفع أجور شققهم ومنازلهم، قامت بتقديم المساعدات والمعونات الاجتماعية لهم
 

اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، تختفي الطبقة الوسطى الأمريكية رويدا رويدا لتتحول مع الأيام إلى نظام فصل اجتماعي حاد وقاس جدا؛ فالطبقات الغنية التي تعيش في الأحياء العليا من نيويورك أو في ضواحي لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو، لن تتنازل عن مكاسبها المالية الرهيبة التي تأتي من العقارات المختلفة، أو عبر وادي السيليكون في كاليفورنيا. في المقابل، نرى الطبقات الوسطى تتحطم تحت الماكينة المالية للشركات الضخمة، ليتحولوا شيئا فشيئا كعبيد لها. لا نظام اجتماعي حقيقي، لا تأمينات صحية واجتماعية تؤمن العيش الكريم للمواطنين، ولا حتى بنى تحتية عاملة في أقوى دولة في العالم.

 
بقليل من الثلج، ترى كل المواصلات العامة في مدينة غنية كمدينة بوسطن، والتي تحوي أكبر مؤسسة كاثوليكية ربحية في العالم، جامعة هارفرد، ترزح تحت ثقل بضعة إنشات (سنتيمترات) من الثلج لتغلق أبواب المحال، لتتوقف المواصلات، وتتحول المدينة خلال ساعات إلى مدينة أشباح يغطيها الثلج، بعدها نرى كيف تتعطل المواصلات العامة عدة أيام؛ تتوقف الباصات وتتأخر، تزيد الحوادث وتعم الفوضى أرقى المدن الأمريكية علما وحضارة -حسب الرأي الأمريكي- خلال أيام. عند نقاشي هذا الأمر مع أساتذتي هنا في هارفرد، أرى الجواب واحدا؛ الشركات المسيطرة على المدينة تهمها المناطق الخاصة بها. حول المشفى حيث أعمل، ترى الملح لإذابة الثلوج يرمى بالأطنان، بينما خارج حرم المشفى الجامعي، تبدأ الحوادث لتراكم الثلج والجليد. الشركات الخاصة تهمها الشوارع التي تسيطر عليها وسائط النقل الخاصة بها، مناطقها الخاضعة لإدارتها، أما المدينة بشكل عام وبناها التحتيتة من شوارع وجسور وأنفاق ووسائط نقل، فعلى الدنيا السلام.
 
علينا الاعتراف أن في ألمانيا سنجد الكثير من المشاكل عند حلول الثلوج، ولكن البنى التحتية تعتبر من أفضل البنى التحتية في العالم. يأتي الناس إلى ألمانيا للتسابق في شوارعها الممتازة، والتي بسببها تعتبر ألمانيا الدولة الوحيدة في العالم التي لا تحديد للسرعة على أوتوستراداتها.
 
يسألني صديقي الأمريكي هنا: تُبقي أمريكا أذرعها مفتوحة للمهاجرين، فماذا فعلت ألمانيا للمهاجرين؟
أبتسم، صديقي، استقبلت ألمانيا وحدها عام ٢٠١٥ أكثر من مليون مهاجر جديد وصل أراضيها، قامت بتعليمهم اللغة الألمانية على حسابها، قامت بدفع أجور شققهم ومنازلهم، قامت بتقديم المساعدات والمعونات الاجتماعية لهم، جهزت لهم فرص التدريب والعمل والدراسة، لتحويلهم بأسرع وقت إلى أناس ناجحين منتجين في المجتمع الألماني. اليوم أرى بضعة مئات من اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان ممن وصلوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية يصارعون يوميا للحصول على قوت عيشهم، وقوت حياتهم. أرى هؤلاء يحاربون طواحين الهواء ضمن البيروقراطيات الأمريكية، والتي تفاجأت بأنها أسوأ جدا من البيروقراطية الألمانية المشهورة عالميا.
 
اليوم، وبقناعة تامة، أستطيع أن أصف الحلم الأمريكي بالكابوس البشع، والعيش في ألمانيا بالحلم الألماني الذي يتحول رويدا رويدا ليكون حلما أوروبيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.