شعار قسم مدونات

أزمة الهوية وهزيمة الحضارة

blogs المسلمون بالغرب

في أزمة الهوية التي يعيشها البعض في بلادنا العربية باتت تتردد كثيرا في الأسماع مقولة: "الغزو العربي الإسلامي" أو "الاحتلال العربي الإسلامي". وغالبا ما ينشأ هذا الجدل من قبل من يصنفون أنفسهم نخبا مثقفة تنتمي إلى بلدان نشأت فيها حضارات عريقة تاريخيا مثل سوريا ولبنان ومصر وغيرها، حتى أنك تجد الواحد منهم يفاخر بأصوله الفينيقية أو الآشورية؛ وبالطبع يستطيع المرء أن يستقرئ أن خلف هذه المفاخرة نسق فكري يحمل الامتعاض من الإسلام والعروبة على اعتبارها ثقافة احتلالية، وبناء عليه لا بد لنا أن نبحث في تماسك ما يدعون، لأن الدعاوى إن لم تقم عليها بينات، أهلها أدعياء.

لو تكلمنا عن سوريا مثلا كبلد تحدث فيه مثل هذه الجدالات، فإن سوريا كدولة لم تعرف لنفسها حيز الوجود بهذا الشكل والمسمى إلا بعد اتفاقية "سايكس بيكو" قبل مائة عام، إذ إن هذه المنطقة كانت تسمى بلاد الشام، ولئن كانت تسمية سوريا مأخوذة من الحضارة الآشورية فهذا لا يعني أن بلاد الشام آشورية الهوية.

لقد نشأت الحضارة الآشورية في العراق، ومن هناك توسعت على حساب حضارات أخرى كالحضارة البابلية، ومن ثم قام الآشوريون بغزو بلاد الشام ووسعوا نفوذهم باتجاهها، بل وقضوا على السيطرة الفينيقية على بلاد الشام، ومن هذا المنطق هل يمكن لمن يفخر بآشورية سورية أن يعترف بأنهم غزاة محتلون؟

العديد من النظريات التاريخية والباحثين في علوم الأنثروبولوجيا يعتبرون الفينيقيين والآشوريين والكنعانيين وسواهم من الحضارات شعوبا سامية هاجرت من شبه الجزيرة العربية واستوطنت بلاد الرافدين وبلاد الشام، وأقامت ممالك وحضارات، وكل حضارة كانت تتوسع على حساب سلفها من الحضارات، وكان الغزو والسيطرة العسكرية هما عماد نشوء تلك الحضارات وازدهارها.

كانت أوروبا تتفاخر بتعلم العربية وإرسال الوفود إلى قرطبة لتحصيل المعرفة، وكان اللباس العربي مثار تفاخر، ولكن هذا عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية في أوج انتصارها

لقد كان الغزو وتوسيع مناطق النفوذ أهم سمة من سمات بناء الحضارة في ذلك الزمان، ولا يجوز بتاتا أن نقيم تلك الحقبة بمعاييرنا المعاصرة، وبالتالي فلا يجوز تخصيص الفتوحات الإسلامية العسكرية بتهم جائرة لا تتسق على الإطلاق مع السياق التاريخي الذي جاءت به، فلا يجوز انتزاع الفتوحات الإسلامية من سياقها التاريخي ومحاسبة المسلمين وفق معايير معاصرة، بل لا بد من مجاراة معايير ذلك الزمان.

وأما مقولة أن العرب المسلمين كانوا محتلين وغزاة وأبناء الصحراء، فلا بد من التذكير أن بلاد الشام فيها نسبة كبيرة من العرب قبل مجيء الإسلام، مثل قبائل الغساسنة وقبائل الضجاعمة، وعلى كل حال لقد كانت بلاد الشام محكومة من قبل الرومان، فهل صار الرومان الذين قدموا من أوروبا أحق ببلاد الشام من العرب؟ ويجادل البعض بأن بلاد الشام كانت مسيحية وقام العرب بتغيير دينها إلى الإسلام بقوة السيف، ويستشهدون بالجامع الأموي وأنه كان كنيسة، لكن الحقيقة التاريخية تؤكد أيضا أنه قبل أن يكون كنيسة كان معبدا وثنيا للإله جوبيتر وقام الرومان بتحويله إلى كنيسة بعد أن قام أباطرة الرومان بفرض المسيحية كدين رسمي للدولة الرومانية، وحاربوا الوثنية وأجبروا الناس على اعتناق المسيحية.

لقد اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وجعلها دينا رسميا في دولته، ومنذ عهده بدأت سياسة تغيير الهوية الوثنية إلى مسيحية، فنلاحظ أن الإمبراطور تيودوس فرض المسيحية بالقوة وحارب الوثنية ورموزها حتى أنه منع الألعاب الأولومبية التي كانت طقسا وثنيا يرجع إلى جبل الأولمب والآلهة اليونانية، ومنعه لتلك الألعاب استدعت قيام انتفاضة شعبية وثنية في وجهه في مدينة تسالونيكي سارع إلى قمعها بشدة بمذبحة شهيرة في التاريخ.

ولو عدنا أيضا إلى الفينيقيين، ألم يتوسع الفينيقيون في مناطق سيطرتهم حتى وصلوا إلى تونس وأسسوا قرطاجة؟ لا بل حتى أنهم وصلوا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية التي يسميها المسلمون الأندلس واستوطن بها الفينيقيون قبل مجيء الغزوات القوطية من القبائل الجرمانية الذين ينحدر منهم معظم الإسبان والبرتغاليين اليوم، ولا ننسى الحروب البونيقية أو الفينيقية التي قادها القائد الفينيقي حنا بعل لغزو روما.

وبالتالي فالفتوحات التي قام بها العرب المسلمون لبلاد الشام كانت ضمن سياق تاريخي أنهت حكم الرومان الغرباء وألغت هيمنتهم على أبناء جلدتهم العرب الغساسنة، بالإضافة إلى أنهم نشروا دعوتهم وفق عرف تاريخي لم يخرج أبدا عن سياقه، فكل الأمم والحضارات كانت توسع مناطق نفوذها والعرب المسلمون لم يأتوا بما هو مستهجن في سياق التاريخ ناهيك عن الأخلاق التي كانوا يتحلون بها: "لا تقتلوا طفلا ولا امرأة ولا شيخا ولا راهبا ولا تقطعوا شجرة ولا تحرقوا بيتا …".

وبالطبع سيخرج علينا من يتنكر لهويته وتاريخه وتراثه وسيقول إن الفتح الإسلامي للأندلس ما هو إلا احتلال، حسنا بهذا المنطق الإسبان هم محتلون لشبه الجزيرة الأيبيرية، والأتراك محتلون للأناضول والمكسيكيون هم إسبان في الأصل وهم محتلون للمكسيك وعلى هذا فقس، والحقيقة أن هذا مجرد كلام لا قيمة له.

لم يظهر مفهوم الاحتلال إلا بعد نشوء القوميات في أوروبا، ونشوء الدول الحديثة، أما بمعايير الزمن الماضي فكان يعتبر إنجازا حضاريا أن تقوم دولة ما بتوسيع مناطق نفوذها، وهكذا سنجد أن الاسكندر المقدوني بنى امبراطوريته، وهكذا أيضا بنيت الإمبراطورية الرومانية والفارسية وهكذا نشأ البابليون والكنعانيون والكلدانيون والفينيقيون والمصروين والهكسوس، وهكذا استولى الجرمانيون القوط على شبه الجزيرة الأيبيرية، وهكذا أيضا بنى العرب المسلمون دولتهم ووسعوها شرقا وغربا، وحتى الإسبان عندما أخذوا الأندلس وسعوا نفوذهم إلى أميركا الجنوبية والشمالية بعد أن اكتشفوها، وسيطروا على الكثير من البلاد وتوسعوا في أوروبا وحتى إنهم غزوا بريطانيا في حملة أرمادا الشهيرة، وهم لا يتنكرون لماضيهم ولا يشعرون بالعار منه، بل يفتخرون به، على الرغم من الويلات التي ارتكبوها ومحاكم التفتيش ومذابح الهنود الحمر.

محاولة التنكر للهوية التي يمارسها البعض اليوم هو تصرف يرمي لرفع مسؤولية الهزيمة التي تعانيها أمتنا عن كاهله، فينسلخ عن نسبه وهويته محاولا أن يجد لنفسه هوية يتفيأ بظلها
محاولة التنكر للهوية التي يمارسها البعض اليوم هو تصرف يرمي لرفع مسؤولية الهزيمة التي تعانيها أمتنا عن كاهله، فينسلخ عن نسبه وهويته محاولا أن يجد لنفسه هوية يتفيأ بظلها

إذن فلماذا يجب على المسلمين أن يكونوا منتزعين من سياقهم التاريخي، ولا يجاروا لعبة الحضارة تلك؟ نعم الفتوحات والغزوات هي كانت معيار الحضارة، ولكن مع ميزة تميز بها المسلمون وهي الأخلاق في الحرب، ولذلك عندما قال غوستاف لوبون "لم يعرف التاريخ أرحم من الفاتحين المسلمين" لم يتحدث عن عبث.

لكن الغريب أن يأتي شخص ويقول لك إن العرب والمسلمين احتلوا سوريا واحتلوا مصر وأن سوريا فينيقية ومصر فرعونية، وكأن هذا الشخص معه سجل يثبت أن مورثاته وحمضه النووي ينتمي للفينيقيين أو للفراعنة، وربما تكون جذور المتكلم من روما أو من جبال تهامة وسط الصحراء، ومع ذلك فهو يدعي نسبا ويفاخر به. لقد تغير الزمان وتغيرت المعايير فلئن كان معيار الحضارة اليوم هو البحث العلمي ومستوى التعليم والجامعات والقوة الاقتصادية والصناعية، وظهر مفهوم الدولة والوطن والقومية والانتماء، فلا يجوز أن نحاكم العصور الماضية بمعاييرنا.

ولكن لو تساءلنا ما هو سبب هذا النمط من التفكير؟ في الواقع لا أراه إلا أحد متلازمات الهزيمة الحضارية التي تعاني منها أمتنا، هذه الهزيمة والتخلف في كل الميادين، صار الكثيرون يشعرون بالعار من الانتساب لها، وصارت لغتها وتراثها مثار خجل، والدليل على هذا الكلام، أن أوروبا وبأفخم مجتمعاتها، كانوا يتفاخرون بتعلم العربية وإرسال الوفود إلى قرطبة لتحصيل المعرفة، وكان اللباس العربي مثار تفاخر، كان هذا عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية في أوج انتصارها، أما الآن فذيول الهزيمة تقتضي كل هذا الذي نراه من التنكر لهويتنا.

إن محاولة التنكر للهوية التي يمارسها البعض اليوم هو تصرف يرمي لرفع مسؤولية الهزيمة التي تعانيها أمتنا عن كاهله، فينسلخ عن نسبه وهويته محاولا أن يجد لنفسه هوية يتفيأ بظلها، وفي أحسن أحواله يمارس جلد الذات على طريقة المنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.