شعار قسم مدونات

تحت ظل آية (3)

blogs صلاة

"فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا"

 

إنّ الهروبَ من مدينةِ دقيانوس التي طبعَها بإفسادِه وجاهليته وملأها بطغيانه وعنجهيتِه، هروب مِن معاني التنازل والرضوخ والارتدادِ عن المبادئ، وليسَ من مباني المدنيةِ وأشكالِها، لسبب مَوجود في ذاتِها، أو لِما فيها من التمدّن ومظاهرِ الحضارة وأشكال الحياة، فنحنُ إنما نهرب بديننا ومبادئنا فنأوي إلى كهفِ الغرابة والإمساكِ على الجمر، للاعتصامِ به لا للانعزالِ فيه.

 

والهروب بالدين لا يعني الهروبَ مِن الدنيا، فالدنيا مَيدانُ إقامةِ الدين وإظهارِه، وفيها نراقبُ سُنن الله وبأسبابِها نتعبده، فكما تحتوي على ما يشغلنا عن وظيفتنا تلك -وذلك مناط الامتحان-، فيها من الوسائلِ ما يقبلُ التسخّيرَ والتشغيلَ في سبيل رفعة الدين وإقامةِ صَرحِه وعُمرانِه الذي يدعو إليه.

 

فالنفور هنا مِما تفرضه علينا المدينَة وعولمتُها من الانصهار التّامِ فيها، والتخلي عن خصائصِنا وما يميّزنا عن غيرنا، ليسَ استغناء ولا اجتنابا لمنتجاتها وأسواقِها وأموالِها وأطعمتها وأهلها؛ بل نطلبُها ونستغلّها ونتفاعلُ معَها، دونما إفراط أو تفريط فيها، قالَ تعالى "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ".

 

التزكّي قرار تتخذُه بنفسِك وتطبّقه عليها، يؤدي بكَ إلى طلبِ معالي الأمور وأرفَعِها، والاندفاعِ نحو أعلاها وما يحقّقُ منها رُقيَّ النفسِ وكمالَها

أمّا الكهفُ الذي نتحدث عنه فهو في قلبِ المدينة لا بمعزلٍ عنها، وهو في قلبِ المؤمنِ بالقضية، يبحثُ عنه بداخِلِهِ ويصعَدُ إليهِ بباطِنه، بخطوات معنوية وتسلّق قلبي حثيث، قبلَ أن ينعكسَ ذلكَ على مظهره وسلوكِه الحياتي، مُحدِثا تميّزَه الإيجابيَ عن الآخرين، تميُّزا يكونُ بمخالطتهم لا بالانعزال عنهم، فنحنُ نريد أن نكونَ نموذجا جاذِبا يُقتدى به، ولا يمكنُ أن تُصبح نموذجا مُقنِعا مقيما للحجّة على غيرِه وقابلا للتأسّي إذا لم تكن من نفسِ المُحيط، متعرضا لنفسِ العوامل والمؤثرات، خاضعا لذاتِ الضغوط والمغريات.

 

أمّا مِقياسُ المؤمن الذي يُراقبه في المدينَة، وكهفُه الذي يأوي إليهِ مِن طوفانِ الابتذال الجارِف، والعبثيةِ الفارِغَةِ مِن المعنى، والاستنساخِ القاتلِ للتفرّد، هوُ التزكيَةُ الدائمَة والتخلّصُ المتواصِل مِن الشوائِب والعوالِق، فالتخلّي يسبِقُ التحلّي والتنظيفُ قبلَ التوظيف.

 

والمميّز في بناءِ لفظَةِ التزكّي في قولِه تعالى "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"، و"قدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ"، و"هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ"، أنّه مُوحٍ بالاستمرارية والتراكُم والشمول، كما أنّه مركّبٌ مِن قطعَتَين، مِن مَعنى الزكاة وهي النّماء والزيادة في الخير، وكذا مِن إيحاء لطيف بصدورِ العملية من الذات وانبِثاقِها مِن الداخِل، فالتزكّي قرار تتخذُه بنفسِك وتطبّقه عليها، يؤدي بكَ إلى طلبِ معالي الأمور وأرفَعِها، والاندفاعِ نحو أعلاها وما يحقّقُ منها رُقيَّ النفسِ وكمالَها.

 

ما ينعكِسُ عليكَ في جميعِ أحوالِك ومناحي حياتِك وكلّ تصرفاتِك واختياراتِك، زكيَّ الملبسِ والمطعمِ والسلوك، في الحال والمقال، في الفعلِ الذي تُبادِر بِه، ورَدّة الفعل التي تضطرُّ إليها، لأنّ الرقيَّ ليس خيارا ظرفيا مؤقتا؛ بل هو التزام دائم لا نأتيه في منطقةِ الراحة فقط، بل علينا أن نلتزمَ به في لحظاتِ الضعفِ والغضبِ والحاجة أيضا، لأنّ تلك اللحظات هي المحكّ الحقيقي الذي تظهر فيه القناعاتُ الراسِخَة والمعادن الحقيقية، لا أوقات الرخاء والرفاهية التي يستطيعُ الجميع أن يرتدي فيها حلة أنيقة تسرّ الناظرين، حلّة سرعان ما يرهنها المتطفّل أو يبيعها بدراهمَ معدودة عند أولِ ضائقة تُلمِّ به لأنها عنده مجرد لَبُوس يأتي ويذهب، يُنزَعُ ثمّ يُوضَعُ بالمناسبات، وليسَت مُختلطة بلحمهِ ودمِه.

 

السماءَ قد تمطرُ ذهبا وفضة، والتوفيقُ والتخصيصُ والاجتباء أغلى مِن الذهبِ والفضة، ولكنهُ غيث لا ينهمرُ ويتجمّعُ إلا في حوضِ من يَحفرُ ويتهيأ له
السماءَ قد تمطرُ ذهبا وفضة، والتوفيقُ والتخصيصُ والاجتباء أغلى مِن الذهبِ والفضة، ولكنهُ غيث لا ينهمرُ ويتجمّعُ إلا في حوضِ من يَحفرُ ويتهيأ له
 

فانظُر كيفَ أنّهم على شدّة الجوع وحاجتَهُم الماسّة للطعام مع رخصَتِهم ومصلحَتهم في الإسراع والتقليل من الاحتكاك، لم تبرّر لهم الاكتفاء بطلبِ ما اتّفقَ مِن الطعام مِن أي صنفٍ ومِن أوّل دكّان يصادِفُ صاحِبَهم، بل اشترطوا عليه النظرَ والتدقيقَ في تدبّرِ أطيَبِه وأجوده وحلالِه وأزكَاه، فهو الأليقُ بِهم، إذ هُم في مقامِ عبادة الله، والله لا يُتقرّب إليه إلا بطيّب. ذلك التزَكّي الشامِل إنما تراكِمُه انحيازاتنا الصغيرة في لحظاتِ الاختيارِ الحاسم، فتلك التفاصيل المتجاوِرَةُ المتضافرَة هي التي تصنعنا، فهل نحنُ إلا مجموعُ قراراتٍ واختياراتٍ واتجاهات اتخذناها في مراحلَ مختلفة من أعمارنا؟ لذلك علينا دوامُ مراقبةِ تلك الانحيازاتِ الصغيرة لأنها منعطفات دقيقَة تُحدّد منهجنا العام واتجاهَنا الأساسي في الحياة.

 

بعضُها يؤدي إلى آخر، فالتنازُل يُغري بالتنازُل، والترفّع عن الشيء يؤدي إلى أعلى مِنه، فرُبَّ انعطاف خاطئ تحسبه يسيرا ومُهمَلا وتزعمُ بأنه الأخير، يؤدي بك إلى مَسيرَة شاقّة، ويدفعكَ للمواصلَة في ذلك الانحرافِ أمدا طويلا دونَ أن تشعُر، حتى عندما تدركه وتقرّر الإقلاعَ عنه وتُكثِرُ من الالتفات، يَصعُبُ عليك الالتفافُ للعودةِ والتصحيح، إلا بعدَ إمعان وانتظارٍ طويل ومُجاهَدة، عندها تلوحُ لكَ بعضُ المنافذِ والفُرص القليلَة الصغيرَة، لعلّك ترجعُ عبرَها إلى سبيلِ الرفعَة والتزكية. 

 

ومن أسرار الآية

أنّهم قطعا متمايزو الوضعِ الاجتماعي، متفاضلون في المرتبةِ والثروة وحيازة المال، ولكن ذلكَ يصبحُ مجرّدَ تفصيل أرضي لا يعني شيئا عند وحدتِهم واشتراكِهم في الغايةِ، خاصّة إذا كانَ اجتماعهُم واتفاقهُم في أمرِ السماء، وهو الأمر الجلل العظيم الذي يجعلُ الدعاة والمنتمين إلى ذات الرسالةِ السامية يترفعون عن سفاسفِ الأمور، فإدراكهم للمعنى الحقيقي لحياتهم وأنّها عَرَض لأصل، ووسيلَة لغاية، ومنفذ لمذهَب أهم وأشرَف، جعلَ قائلَهُم يقولُ "بِوَرِقِكُمْ هذه" فشملَ الجميعَ بنسبةِ المال، حتى من كانَ منهم أقلّ جَمعا وادّخارا، وحتى الراعي الذي ليسَ بحوزتهِ من ذلكَ الوَرِقِ شيء، فهُم في شأنهم ذاك كيان واحِد لا يستأثرُ أحدهم بشيء عن الآخر، يتقاسَمون المسرّة والمضرّة ويتشارَكونَ الحقّ والواجِب، وشُعور واحِد ينطقُ فيهِ الفردُ عن حاجَةِ الجماعَة، "آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا".

 

ومِن لطائِفِها
قد يأتي النبيُ يوم القيامة وليسَ معه أحد مُؤمن به ولم ينَل من ثمرةِ دعوتِه شيئا، كما جاء في الحديثِ النبوي، ولكنه يأتي بإيمان راسِخ مطمئن، وقلب سليم لم يفرّط في ثغرِه ولم يُسلِم رايتَه للسقوط

أنهم قد أخذوا معهم ما أمكنَ جَمعُه مِن المال، بذلا للسببِ وفهما صَحيحا لِوعدِ الله تعالى لهم بالتيسيرِ والرّفق "يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم"، فالإيقانُ بوعدِ الله وحصولِه لا يُعفي من العملِ لاستقباله والتهيئة له، فتساقطُ الرُّطَبِ على مريم عليها السلام لم يكُن ليتأتّى لها دونَ هزّ لجذعِ النخلة، وكيفَ في مُخيّلَتِك يَكونُ هزُّ المرأةِ الحاملِ للجذع، وهي في آخر فتراتِ الحمل وأشدّ أطوارِ الضّعف، قد ألجَأها المخاضُ إلى النخلةِ كي تستندَ إليها خائرةَ القِوى؟

 

فهل يقوى الرجل الصحيح على هزّ النخلَة حتى تستطيعَه المرأةُ الموشِكَة على وضعِ حملِها!، أم هَل ينفلِقُ البحر العظيم لضربةٍ واحدَةٍ من عصا مُوسى!، أي أنَّ الغايةَ من ذلكَ الأمرِ رَبطُ السببِ البشري وإن كانَ بسيطا، بالعونِ الربّاني وإن كانَ عظيما مُعجِزا، حتى لا يجلسَ أحدنا بحجُّةِ اليقينِ خامِلا متواكِلا مُستقيلا عاطِلا عن التفكيرِ والتدبير، ثم ينتظرُ مددَ السماء، ويتذمّرُ لتأخرِه.

 

لأنّ السماءَ قد تمطرُ ذهبا وفضة، والتوفيقُ والتخصيصُ والاجتباء أغلى مِن الذهبِ والفضة، ولكنهُ غيث لا ينهمرُ ويتجمّعُ إلا في حوضِ من يَحفرُ ويتهيأ له، ولا ينزلُ كالبلسَم إلا على الأكفِّ العامِلَةِ المُتشقّقة.

 

أخيرا

لسنا مطالبين دائما بالنصر المُبين، والتمكينِ لقضايانا وما نؤمن به، لأنّنا مجرّد عامل واحد في معادلة متعدّدة الأطراف والمجاهيل، قد يقدّر الله لنا أن نكونَ عاملَ توجيه لها فنلعب دورا مباشرا في إظهار نتيجتها ثم نراها تتحقّق أمامَ أعيننا، وقد تلعبُ كل الظروف والعواملِ ضدّنا، فلا يسعنا عندها إلا القيام بواجبنا في البلاغ ثم الحفاظ على ثباتِنا وتحصينِ مبادئنا والهروبِ بها وعدم التنازلِ أو التفريط في رسالتنا وإيماننا بها، وإن كنا قلّة مستضعَفين.

أن نتشبّثَ بعروةِ اليقين ونلتصِقَ بالرّاية فلا تَسقُط، ثم ندع الكرة في ملعبِ الانتظارِ والصّبرِ الجميل، حتى تستغرقَ الأقدارُ وتصاريفُها وقتَها الكافي في ترتيبِ المشهَد، فيظهرَ خالد بعدَ أسامة وجعفر وعبدِ الله بنِ رَواحَة، فيحملَها وينقلَها من طورِ الصيانَةِ والحفظ إلى التمكينِ والرفع.

 

وقد يأتي النبيُ يوم القيامة وليسَ معه أحد مُؤمن به ولم ينَل من ثمرةِ دعوتِه شيئا، كما جاء في الحديثِ النبوي، ولكنه يأتي بإيمانٍ راسِخ مطمئن، وقلب سليم لم يفرّط في ثغرِه ولم يُسلِم رايتَه للسقوط، فيحظى بالثوابِ كاملا، ويرجعُ إلى ربه راضيا بما ظفرَ بهِ في آخرَته، مَرضيا عنه بما قدّم في دنياه، "هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.