شعار قسم مدونات

أن تكون رجلاً شرقياً.. في شرق فَقد شرقيته!

blogs رجل مصري

"قديم" في تونس تعني تهكماً الرجل الذي لا يُواكب عصره أو المرأة إذا أُنث اللفظ.. أي عصر؟ لسائل أن يسأل أي عصر لا بد من مواكبته.. ولـ"قديم" أن يقول العصر المقصود هنا هو كل ما جاء به الغرب من منطوق وملبوس.. من لفظ وحركة من غمزة ولمزة.. أنت قديم في لبسك.. هناك مثل شعبي قديم في تونس يقول "كول على ذوقك والبس على ذوق الناس" ومعناه أن تلبس جيداً ما ستر واستحسنته العين وما جلب الاهتمام حسناً بدون تكليف.

ماذا نفعل لو تغير ذوق الناس اليوم وصارت الموضة الآن سراويل أما مشقوقة أو مقطوعة أو ساقطة تكشف أكثر مما تستر.. إن لم تلبسها فأنت "قديم". الموضة اليوم قمصان تحمل أعلام دول كان لها عهد مع شعوبنا لمّا استعمرتنا، فكانت حينها إن وُجدت تُمزق أو تُحرق.. أما اليوم فهي أيقونات.. "ماركات" عالمية لأسماء باهظة.. إن لم تلبسها فأنت "قديم".. كلام مخطوط بلغات شتى ترجمته عربياً ألفاظ قبيحة أو شعارات عنصرية أو اشارات عنف تنبذها الأعراف كلها كالوشم، بارزة على هذه القمصان التي إن لم تلبسها فأنت "قديم".. عليك أن تلبس من دولاب أختك أحياناً.. وما الفرق في عصر المساواة التي لابد أن تؤمن بها إيماناً راسخاً حتى وإن خالفت شرع الله وإلا فأنت رجعي أو"قديم".

أنت قديم في كلامك، نعم قديم أنت إن لم تتكلم بما يُرضي الناس.. عليك أن تكون "كول" وتقول "هاااي".. عليك ألا تنتقي ألفاظك، بل أن تَقل ما خف على اللسان نُطقاً، حتى وإن قبح المعنى، وإلا فأنت أنت "قديم".. عليك أن تُنادي أبيك باسمه وليس أبي، وأن تُنادي أمك باسمها وليس أمي.. عليك أن تترك أختك أو زوجتك وابنتك تلبس ما يحلو في أعين الناس، حتى وإن تجردت من المحيط والمخيط وإلا فأنت "قديم" أو عدواً للحداثة.. طبعاً الحداثة لا أحد يعاديها أو يرفضها بمعناها السمح الجميل، من تقدم ورقي ومواكبة للعصر لما لا يُفسد ذوقاً أو حرثاً أو نسل.

يحق لك أن تعمل ما تريد وأن أعمل ما أرى فيه موطن من مواطن الجمال.. وما أجمل أن تكون قديماً متمرداً مختلفاً لا تُشبه السائد.. أن تكون رجلاً شرقياً.. في شرق فَقد أو كاد شرقيته..

أما الحداثة في معناها الغرائزي "البهائمي" فإن أجدادنا كانوا يسمونها الدياثة.. أخذ صديقي نفساً عميقا كأنه ارتاح من حمل ثقيل التفت إلي مُستدركا بسؤال.. هل تراني قديم؟ حركت شفتاي لأرد فلم ينتظرني واسترسل في كلامه غير عابئ بي.. أظنك لست مثلهم وحتى وإن كنت كذلك فهذا لا يعنيني في شيء.. أنا رجل شرقي في زمن تغرب شرقه واستحال غريباً لا يُشبه أجداده ولا آباءه حتى.. بئس الحداثة إن كانت تعني بذاءة ورداءة وإن كانت تُحارب فضيلة.. نعم اعترف أنني أحدهم.. أنا ذلك "القديم" الذي أنادي أمي.. أمي ويحلو لي أن أناديه أبي.. أنا ذلك القديم الذي لا ألبس مُقطعاً أو مُحفراً أو ساقطاً.. لأن من اسمه أبي علمني أن أكون رجلاً لا مُتشبها.. لأن تلك المرأة التي اسمها أمي حريصة كل الحرص على أن أكون "ولد أصل" وألا يخرج من فمي ما يُغضب الله ويؤذي خَلقًهُ..

أنا ذلك القديم الذي لا يرفع شعر رأسه ولا رأسه تكلفاً ولا يُعلي صوته كأنكر الأصوات. أنا ذلك القديم القديم الذي لا يطربه النشاز ولا يُغريه ما يطلبه المستمعون ولا "الجمهور عايز كدة". يا صديقي حتى تخرج من هذه العباءة عليك أن تكون امرئ متلون.. تفعل ما يفعلون وتدين بما يدينون.. تعبد ما يعبدون.. حتى وإن كانت أصنام تُعبد من دون الله.. نعم يا صاحبي تحولت منظومات عدة أوثاناً تُعبد.. كالآت والعزة.. الديمقراطية والحداثة والتقدم.. متناسين أنها مجرد أدوات حُكم عصرية بمعنى جميل طيب، ولكنها حملت أكثر من طاقتها.. في زمن تغيرت فيه المفاهيم..

نعم فالربا صار فائدة والخمر صار مشروب روحي والزنا صار اسمها علاقة حميمية.. عليك أن تكون مشابه أن تكون نسخة كباقي النسخ وإلا فأنت "قديم" والقديم الذي نهواه ليس جَمل نركبُه مسيرة كم ليلة حتى نصل أرص الحجاز، ولا خيلاً مسرجة تطوي الأرض طياً إلى أرض الكنانة التي استاحلت كنيتها هي الأخرى "أم الدنيا".. اختصار هي في عمقي الحبيبة مصر أرض الكنانة.. قديماً ليس صحراء وخيمة وليل حتى وإن كانت "الخيل والليل والبيداء تعرفني.." قديما، ليس أيضاً "سيف ورمح وقرطاس وقلم.." بل أن تواكب عصرك بما تهوى نفسك ويرضي ربك.. أن تكون شخصية يفخر الأهل بها ولا تفاخر.. أن تكون شحروراً يُغرد خارج السرب.. أن تكون متمرداً.

أحياناً يكون التمرد هو الحل حين تشعر أن ما حولك استحال صورة باهتة.. قاتمة.. رديئة.. أن يكون أكثر ما حولك شاذاً.. المثل القديم يقول "الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه".. فماذا إن كان أكثره شاذ.. فلابد للحفظ هنا أن يكون تمرداً.. التمرد على الشاذ الذي صار سائداً.. أن تتمرد بمبادئك القديمة على هذه الأوهام الحديثة.. ألا تكون فرداً من "القطيع" يمارسون فيك جورهم أو فيكم عدالتهم.. أن تقول لا عندما تكون هي الكلمة الأصح حتى وإن كان الوقت الخطأ.. أن تكون مختلفاً..

الاختلاف نعمة لا يراها فقط أعمى البصيرة.. فالاختلاف عادةً لا يُفسد للود قضية.. ولمن رآها هي حريتي التي تقف عند بداية حريتك.. هي احترام لي كقديم ولك كحداثياً أو حداثتيا نعيش على رقعة واحدة. جمعنا التاريخ والجغرافيا.. يحق لك أن تعمل ما تريد وأن أعمل ما ارى فيه موطن من مواطن الجمال.. وما أجمل أن تكون قديماً متمرداً مختلفاً لا تُشبه السائد.. أن تكون رجلاً شرقياً.. في شرق فَقد أو كاد شرقيته..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.