شعار قسم مدونات

شعرية الليل في "ليليات عبد الإله بلقزيز"

blogs الليل

لم أكن أضع في حسباني حينما كنت أقرأ كتاب "ليليات" لعبد الإله بلقزيز، أن أكتب هذا العنوان ولا أن أدون هذه الورقات، ولكن الحس المشترك بيننا وبينه، هو الذي جعلنا نتحاور مع نصوصه، ونتذوقها ونفهمها، إذ لا أحب أن أقرأ الأدب نائما، فذلك شيء ممل ولا إفادة فيه، بل أحب أن أكون قارئا ناقدا منتجا، بحيث يحس الأديب بأدبية أعماله الأدبية حينما يجد فيها القارئ هما يتشاركه ويتفاعل معه قراءة وتحليلا وتأويلا وتعليلا، فالكاتب الحق عندنا هو الذي يكون قريبا منا، نجد صورة مشاعرنا وأفكارنا في أدبه، ولا ننكر ههنا فضل عميد الأدب طه حسين، فمن كتبه تعلمنا طريقة النقد، ومنهجية فهم الأدب وتذوقه، منحنا سر محاورة الأدب، والضوابط العلمية في التعامل معه.

إن النقطة التي ننطلق منها في بيان شعرية الليل في كتاب "ليليات" هي نظرية جون كوهن في كتابه: "الكلام السامي" أو "اللغة العليا"، باعتباره كتابا مكملا للمشروع الذي بدأه في مؤلفه "بنية اللغة الشعرية"، ففي "الكلام السامي" طمح كوهن التأسيس لشعرية العالم والأشياء، بعد تأسيسه لشعرية الشعر المرتبطة بالمستويات الانزياحية، معناه أنه انتقل من شعرية اللغة إلى شعرية الأشياء الجميلة، بحيث يسعى إلى دراسة كيفية تكوين وامتلاك العالم في النصوص خاصة، والروايات البوليسية عامة، عبر خصائص جمالية وانزياحية (ينظر: مقدمة الكلام السامي)، فأصبحت الشعرية قادرة على بيان كيفية الانتقال من الكلمات إلى العالم.

فشعرية الأشياء هي شعرية الأشياء الجميلة التي تلازمنا في حياتنا، يتفق الناس على جماليتها، فلم تعدد الكلمة حبيسة المعنى الظاهر فقط، أو محدودة المعنى، بل تجاوزت ذلك لتسهم في بناء العالم والأشياء، وإلى بناء المعرفة، إذ لم يعد ينظر إلى النص بنظرة التجزيء والانفصال، بل ينظر إليه في كليته، بل ونستحضر جميع مكونات الكون، باعتبارها الصنيع الذي تأسس لنا داخل بنية النص الكوني، فتخولنا التراكمات المعرفية أن نبين في النصوص الرسائل الروحية التي تحملها، وهذا ما تأتى لنا في نصوص الكاتب بلقزيز، بحيث نحاول أن نبين تجليات شعرية الليل في صنيعه ليليات، بعد أن علمنا الأساس الذي سنعتمده في بيان ذلك، فشعرية الليل كغيرها من الشعريات الجميلات التي سعى كون أن يقاربها، وعليه فشعرية الأشياء هي انطولوجية بالضرورة، فإننا نسمع بشعرية الوحدة والقمر والشمس والخطأ، والقبيح، وغيرها من الشعريات.

يتشارك معنا الليل حاجات نعيشها، ويضمنا دائما دون أن ينفر من قسوتنا، لا يعرف معنى التعب، الليل ظلام يمنحك النور الذي في داخله، نور لا تراه بصيرتك التي لا تبصر إلا بالنور

وكتاب بقلزيز حاوٍ لشعريات كثيرة، حاولنا أن نقتصر فيها على شعرية الليل فقط، ونتساءل فنقول: كيف أسس الكاتب لعالم الليل في "ليلياته"؟ لا بد أن القارئ قد فهم موضوع الورقة، لنسير في خطوات متشاركة غير متفاوتة، لنجيب عن التساؤل المطروح، الذي يحكمنا ويؤطرنا داخل عالم شعرية الليل الجميل المظلم، ونرى بأن ليليات جعلت من الليل ليلا أنيقا جميلا، وأنيسا مؤنسا يخفف من أوجاع الناس وهمومهم، وأحزانهم، فهو الوحيد الذي ينجو فيه الإنسان من ألم النهار الطويل، يعتكف مع ذاته التي يحن إليها، فينشدها وتنشده، بنغم الليل الهادئ.

 

يقول الأديب: "الليل وحده هو التحقيق، يفيض جمالا عن أناقة الحروف، ويشيع اللغة إلى مهجعها كي ترتاح من عناء المستحيل"(ص31)، يحضننا الليل بعد التعب، ويسمع للآلام الثاوية في دواخلنا، فالجمالية الشعرية حاضرة في جعل الليل إنسانا يتقاسم معنا ضجيج الحياة، ليمنحنا بعضا من جماله الساكن هروبا من تذمرات الحياة، فبعد كل مشقة نأخذ من الليل قبسا من الأمل، وفي كل سقوط يتجدد الوقوف، يغيثنا ويروي عطشنا، ويمنح لنا شارة الاستمرار في الحياة، هو العالم الذي يمنحك الراحة والمحبة.

يتشارك معنا الليل حاجات نعيشها، ويضمنا دائما دون أن ينفر من قسوتنا، لا يعرف معنى التعب، الليل ظلام يمنحك النور الذي في داخله، نور لا تراه بصيرتك التي لا تبصر إلا بالنور، ونؤكد على هذه الشعرية الساعية إلى بيان جمالية الليل، في قول صاحب ليليات: "الليل لحظة الأبدية البيضاء، خليل الموت وكاتم سره (…) الليل طيع لمن يهديه نفسه، وصعب على من تعثر في حبه، الليل وحده ملك متوج في المدى المفتوح، بعيد من الإبهام وقريب من شعبه، هو لا يطيل الانتظار ليقول ما يبغي أن يقول"(ص29)، تبين لك كيف جعل بلقزيز من الليل الملجأ الأبدي لكل شخص، ونحن نتساءل كيف يكون الليل طيعا وملكا وكاتما وخليلا وقريبا من شعبه، ومنتظرا ومتكلما؟

 

هذا ما تحاول شعرية كوهن أن تبينه، في نظرية طامحة إلى تحديد معالم جمالية الأشياء في الكلمات، فالليل ههنا في اليليات ليس ليلا عاديا كما نشاهده الواقع، فقد نقول إن ما نعيشه في ليالينا فيه من الأسى والفجع ما فيه، نعيش في ألم وقسوة نمقت فيها أنفسنا، ولكن الكاتب في نصوصه هاته، يبني لنا عالما ليليا جميلا، عالم تستقل فيه وتحتضن في أحضانه لتشكو له أحزانك وأفراحك، يهديك النوم لترتاح، ويمنحك فرصة محاسبة نفسك ومصالحتها، وتمنحك الوحدة فيه أملا آخر لإعادة تنظيم الأشياء من جديد، لا شيء غير الليل يحميك في ليليات بلقزيز، عالم من الكلمات الانزياحية التي آتت لنا حرية التذوق والتخيل الانسجام في عالمه الليلي.

الليل مئذنة للشكاية من عبث مجهول السلالة، يصحبك في الغرفة والحمام بين الدفاتر، ويوقظ في السكون الجمر، الليل محكمة للكتابة
الليل مئذنة للشكاية من عبث مجهول السلالة، يصحبك في الغرفة والحمام بين الدفاتر، ويوقظ في السكون الجمر، الليل محكمة للكتابة
 

ومن شعرية الليل أيضا ما أسفر عنه في قوله: "ففي الليل طورت مواهبك، وبث تعرف أصول اللعبة أكثر، يكفيك بعض وقتٍ وصمتٍ، كي تهب الغموض وضوحه الضروري، وكي تتفنن في طرد الملتبس كما تطرد قريبة الجارة الأرواح الشريرة" (ص32)، نرى ونحن نقرأ النص ونتأمله ونفهمه بعد تذوقه، أن تشكيل الليل في ليليات بلقزيز تشكيل جمالي انزياحي، فأنت تلاحظ حركية وكينونة الليل هنا لا تكمن في أنه يشاركنا نفس الهموم، بل تجاوز ذلك إلى تطوير مواهبنا، وكشف أسرار الحياة، وإيضاح غموضنا، وطرد الضبابية وكشف المحجوب الذي التبس عنا، لم يعد الليل زمانا أو لحظة تمر فقط، بل هو واحد منا، شيء مؤنسن يفهمنا أكثر من الإنسان نفسه، يتمازج سكونه في دواخلنا، ويصاحب أرواحنا، ويتعاطف مع قلوبنا وأحاسيسنا، ويفهم أفكارنا، ليخبرنا بأشياء لم نكن نعرفها، ويقدم لنا طرقا لنطور ذاتنا، حتى تستمر في مواجهة أصول ومكر لعبة الحياة.

أجاد الكاتب وتميز في تكوين وامتلاك الليل في ليلياته، فصوره لنا مخالفا لما يوجد في الواقع، ومنحتنا شعرية جون كوهن في العالم والأشياء مقاربة ذلك وبيانه، واتساقا مع هذا ترى تأكيد ما مر معنا في الورقة، بأن الكلمة مسكن الوجود، هي القادرة على بناء وتأسيس وتكوين عالم مستقل استقلالا تاما، وهذا ما تأتى لنا في ليليات عبد الإله، فبينا أن "الليل مئذنة للشكاية من عبث مجهول السلالة، يصحبك في الغرفة والحمام بين الدفاتر، ويوقظ في السكون الجمر، الليل محكمة للكتابة" (ص33)، إننا نأتيه بآلامنا وهمومنا ليفرج عنا، هو بمثابة الأم التي تحن على ابنها، وترضعه وتحضنه، وتضحكه، ليكون سعيدا، وتظل ترقبه حتى لا يصاب بأذى تريده ابنا لا تفارق البسمة محياه، فكذلك الليل نرضع منه الوحدة لنرتقي بأرواحنا نحو السمو الإلهي، ونأخذ من أحضانه سكونا وبسمة ومحبة، هو الأنيق المحن الجميل، هو الكاتم لأسرارنا، والخليل في خلوتنا، والمشع في ظلامنا الدامس، والمطور لمواهبنا، والكاشف لغوامضنا، والفارج لهمومنا.

ومجمل القول فإن شعرية جون كوهن في نظرية العالم والأشياء تمنحنا حرية التجول في النصوص ومعرفة محمولاتها الدلالية، وبيان تجليات سحر الكلمات في بنائها لعالم الأشياء الجميلة، فكما رأينا ههنا شعرية الليل وجماليته، سترى معنا في قادم المقالات شعريات أخرى يزخر بها كتاب "ليليات"، ونرجو أن نوفي الإفهام حقه في بيان موضوع هذه المقالة الأدبية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.